يُنْذَرُهُ، أَيْ يُخَوَّفُ مِنْ وُقُوعِهِ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) (٧٨: ٤٠) وَقَوْلُهُ: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) وَالْمَفْعُولَانِ يُذْكَرَانِ كِلَاهُمَا تَارَةً وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى بِحَسَبِ الْمُنَاسَبَاتِ، وَقَدْ حُذِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا هُنَا لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ حَسَبَ الْقَاعِدَةِ، أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ إِذْ تُبَلِّغُهُمْ دِينَ اللهِ وَكُلَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ مِنْ عِقَابِهِ تَعَالَى لِمَنْ يَعْصِي رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِيجَازٌ بَلِيغٌ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (٦: ٩٢) وَقَدْ صَرَّحَ بِجَعْلِ الْإِنْذَارِ عَامًّا لِأُمَّةِ الْبَعْثَةِ كَافَّةً بُقُولِهِ: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوَنَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (٢٥: ١) وَكَثِيرًا مَا يُوَجَّهُ إِلَى الْكُفَّارِ وَالظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَاقَبُونَ حَتْمًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٣٥: ١٨)
وَقَوْلُهُ: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (٣٦: ١١) وَقَوْلُهُ: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) (٦: ٥١) الْآيَةَ.
وَأَمَّا الذِّكْرَى فَهِيَ مَصْدَرٌ لِذِكْرِ الشَّيْءِ بِقَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَالِاسْمُ الذِّكْرُ بِالضَّمِّ وَكَذَا بِالْكَسْرِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: نَصَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ الْكَسْرَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَقَالَ: اجْعَلْنِي عَلَى ذُكْرٍ مِنْكَ. بِالضَّمِّ لَا غَيْرَ؛ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ جَمَاعَةٌ عَلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالذِّكْرَى كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الذِّكْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ النَّافِعِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمُؤَثِّرَةِ - وَلَا أَذْكُرُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) (٧٩: ٤٢، ٤٣) عَلَى وَجْهٍ وَفُسِّرَتْ بِالْعِلْمِ - وَلَا بِمَعْنَى مُطْلَقِ التَّذَكُّرِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦: ٦٨) لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ الْإِنْسَاءِ وَقَدْ خَصَّهَا هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْمَوَاعِظِ كَمَا قَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ٥١) (: ٥٥) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩: ٥١) وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (٢١: ٨٤) فِي سُورَةِ ص: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (٣٨: ٤٣) وَفِي سُورَةِ ق: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٥٠: ٨) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ الْإِيمَانَ سَوَاءٌ كَانُوا آمِنُوا عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ أَمْ لَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَعَ مَا قَبْلَهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ وَسَائِرَ النَّاسِ، وَتُذَكِّرَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَتَعِظَهُمْ ذِكْرَى نَافِعَةً مُؤَثِّرَةً لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ - أَوْ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِلْإِنْذَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute