للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَشُعُوبًا وَأُمَمًا ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةَ إِدْرَاكٍ وَوِجْدَانٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ فِي خَارِجِهَا ثَانِيًا، فِيَا لَهُ مِنْ مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ رَهِيبٍ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعِلْمِ اللهِ عَنْهُ.

وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ " حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ " الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ " إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ - فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. (قَالَ) فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ

لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ - قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ.

وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ

<<  <  ج: ص:  >  >>