للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَدَمِ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِمَزِيَّتِهِ وَفَضْلِهِ، أَوْ بِتَنْقِيصِ تِلْكَ الْمَزِيَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ مَا دُونَهَا هُوَ فَوْقَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَرَفَعَهَا عَلَى غَيْرِهَا بِالْبَاطِلِ، أَوِ ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ بِقَصْدِ احْتِقَارِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَتَنْقِيصِ قَدْرِهِ. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ. أَيْ فَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ أَوِ الْمَكَانَةِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ: (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيْ أُولِي الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، أَظْهَرَ حَقِيقَتَكَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ، بِإِظْهَارِهِ لِمَا كَانَ كَامِنًا فِي نَفْسِكَ مِنْ عِصْيَانِ الِاسْتِكْبَارِ. (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٣: ١٧٩) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى جَازَاهُ بِضِدِّ مُرَادِهِ، إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ مَنْزِلَتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، فَجُوزِيَ بِهُبُوطِهَا مِنْهَا إِلَى مَا دُونَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْمُتَكَبِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُورَةٍ حَقِيرَةٍ يَطَؤُهُمْ فِيهَا النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ يُبْغِضُهُمْ إِلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيَحْتَقِرُونَهُمْ وَلَوْ فِي أَنْفُسِهِمْ - وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَلْيَقُ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلتَّكْلِيفِ. وَلَكِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ جَزْمِهِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلتَّكْوِينِ وَاقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ قَالَ:

" يَقُولُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ بِأَمْرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ: فَاهْبِطْ مِنْهَا بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا مِنَ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ. مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُكَافَأَةً لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ، وَسَأَلَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ".

(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ قَالَ بِلِسَانٍ قَالَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَوْ لِسَانِ حَالِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ عَلَى الْآخَرِ: رَبِّ أَخِّرْنِي وَأَمْهِلْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ آدَمُ

وَذُرِّيَّتُهُ فَأَكُونَ أَنَا وَذُرِّيَّتِي أَحْيَاءً مَا دَامُوا أَحْيَاءً وَأَشْهَدُ انْقِرَاضَهُمْ وَبَعْثَهُمْ (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أَيْ قَالَ تَعَالَى لَهُ مُخْبِرًا، أَوْ قَالَ مُرِيدًا وَمُنْشِئًا كَمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اهـ. فَهُوَ يُؤَكِّدُ بِهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحِوَارِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُقْتَضَى التَّكْوِينِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْمَشِيئَةِ، لَا مُرَاجَعَةَ أَقْوَالٍ مِنْ مُتَعَلِّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ.

وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ جُعِلَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ السُّؤَالِ إِيجَازًا، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَرَدَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فَكَانَ جَوَابُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَهُوَ: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١٥: ٣٦ - ٣٨) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>