عَنْهُمْ بِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ أَعَاجِمُ، وَلَمْ تَكُنْ لُغَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْهُمْ كَلُغَةِ الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا - دَعْ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْقِصَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِحَقَائِقَ ثَابِتَةٍ فِي نَفْسِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ، وَمَا ثَمَّ أَقْوَالٌ قِيلَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا - عَلِمْنَا هَذَا وَذَاكَ. وَلَكِنَّ الَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ اخْتِلَافٌ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَالِيبِ وَطُرُقَ التَّعْبِيرِ فِيهِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا تَخْتَلِفُ إِلَّا لِنُكَتٍ تُفِيدُ مِنْ فَهْمِهَا فَائِدَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، فَمَا فَائِدَةُ مَا ذُكِرَ مِنِ اخْتِلَافِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَالْحِجْرِ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَصْلَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي مَوْضِعِهِ أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي مِثْلِهِ بِالْفَصْلِ اسْتِئْنَافًا وَلَا يَحْتَاجُ فِي زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ إِلَى نُكْتَةِ غَيْرِهَا، عَلَى أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَجَدْتَ أَنَّ طَلَبَ إِبْلِيسَ الْإِنْظَارَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ قَدْ ذُكِرَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ مَعْطُوفًا بِالْفَاءِ لِتَرَتُّبِهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَوَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَجِيمٌ مَقْرُونًا بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَلَعَنَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - فَلَا غَرْوَ إِذَا جُعِلَ طَلَبُهُ لِلْإِنْظَارِ فِيهَا مُتَّصِلًا بِمَا قَبِلَهُ مُتَفَرِّعًا عَنْهُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ إِذْ طَرَدْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، فَأَطِلْ حَيَاتِي فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِكَ، فَأَجَابَهُ تَعَالَى جَوَابًا مَعْطُوفًا عَلَى طَلَبِهِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الْحِكْمَةُ، لَا إِلَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ أُمْنِيَّتُهُ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ. وَلَعَلَّ مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى فِي إِنْظَارِ إِبْلِيسَ أَنْ يَتَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَدَ هَذَا مِنْ طَلَبِهِ الْإِنْظَارَ.
وَأَمَّا نُكْتَةُ حَذْفِ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) مَعَ إِثْبَاتِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ الْإِسْكَافِيُّ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّدْرِ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ وَالْقِصَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) وَالْفَاءُ تُوجِبُ اتِّصَالَ مَا بَعْدَهَا بِمَا قَبِلَهَا، وَالنِّدَاءُ أَوَّلًا يُوجِبُ الْقَطْعَ وَاسْتِئْنَافَ الْكَلَامِ وَلَا سِيَّمَا فِي قِصَّةٍ لَا يَقْتَضِيهَا مَا قَبْلَهَا، فَلَمْ تَحْسُنِ الْفَاءُ مَعَ قَوْلِهِ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) وَالْمَوْضِعَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمَا نِدَاءٌ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَ مَا بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ وُصِلَ الْقَسَمُ فِيهِمَا بِالْأَوَّلِ بِدُخُولِ الْفَاءِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute