هَذَا وَإِنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ، فُرِّعَتْ مِنْهَا مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فَيَحْسُنُ الِاسْتِنَارَةُ بِهَا وَبِعِلْمِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ: وَاتِّبَاعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥) .
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) : حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ
مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ - يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٦٨) وَالْمَائِدَةِ (٥: ٩٠ - ٩١) .
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute