نَفْسِهِ وَنَفْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْفَاقِدِ لَهُمَا. فَلَا وَجْهَ إِذًا لِتَحْرِيمِ الدِّينِ لَهُمَا، وَلَا لِجَعْلِهِ إِيَّاهُمَا عَائِقَيْنِ عَنِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ وَثَنِيُّوا الْبَرَاهِمَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَرَتْ عَدْوَاهُ التَّقْلِيدِيَّةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، وَسَرَتْ عَدْوَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى كَثِيرٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا يَبُثُّونَ فِي الْأُمَّةِ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَرُوحَهُ وَسِرَّهُ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ. وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِأُمَّتِكَ: هِيَ - أَيِ الزِّينَةُ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ - ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِالتَّبَعِ لَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مِثْلَهُمْ. وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (فَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ " خَالِصَةٌ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ) - وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً مِنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ الْحَقَّ يُورِثُ أَهْلَهُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (٢: ١٢٣، ١٢٤) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (٧٢: ١٦) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا.
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانُوا أَحَقَّ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي تَرَقِّيهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ بِمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا أَحْكَمَ مِنْ صُنْعِهَا، وَعَلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِشُكْرِهِ عَلَيْهَا بِلِسَانِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ كُلَّمَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَيَزْدَادُ شُكْرًا لَهُ كُلَّمَا زَادَتْ نِعَمُهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَثَمَرَاتِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْنَا بِتَمْكِينِنَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَعَلَ لَنَا فِيهَا مِنَ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشُّكْرِ قَبُولَ النِّعْمَةِ وَاسْتِعْمَالَهَا فِيمَا وَهَبَهَا الْمُنْعِمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ شُكْرُ الْجَوَارِحِ وَلَا يَكْمُلُ شُكْرُ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَشُكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِلَّا بِشُكْرِ الْأَعْضَاءِ الْعَمَلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ " وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ جَعْلِ التَّنْظِيرِ فِيهِ بَيْنَ الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ وَالصَّائِمِ الصَّابِرِ دُونَ الْجَائِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute