مِنْ بَعْدِهِ قَوْلَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَعَلُوا بَعْضَهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا خِطَابُ اللهِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا وَبَعْضَهَا لِلتَّنْزِيهِ، وَجَعَلُوا الِاقْتِضَاءَ فِيهَا غَيْرَ جَازِمٍ وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ فِي كِتَابِهِ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ هَذَا نَصُّهُ:
" وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمَحْرَّمٌ تَحْرِيمُهُ عَارِضٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا أَحَقَّهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ. وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ. وَوَصْفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ. فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.
" وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا فِي مِثْلِهِ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشَدُّ. وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ فَقَالَ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (١٦: ١١٦) الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَلَّ اللهُ كَذَا وَحَرَّمَ اللهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي: التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
" وَأَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ
مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ. فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute