للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُرَبَّعِ الْبُعْدِ. وَمِمَّا يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالتَّقْرِيبِ، فَيُخْطِئُ فِيهِ الْمُقَدِّرُ وَيُصِيبُ، تَقْدِيرُ سَيْرِ الْأَمْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ كَالسُّلِّ الرِّئَوِيِّ، فَإِنَّ لَهُ دَرَجَاتٍ يُسْرِعُ قَطْعُ الْمَسْلُولِ لَهَا وَيُبْطِئُ بِقَدْرِ قُوَّةِ الْمَنَاعَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ فِي جِسْمِهِ وَطُرُقِ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جَوْدَةِ الْهَوَاءِ وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ. وَكَمْ مِنْ مَرَضٍ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى إِمْكَانِ الشِّفَاءِ مِنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَعَهَا الْمُعَالَجَةُ وَهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ، كَالسَّرَطَانِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُ بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَيَتَعَذَّرُ فِي آخَرَ.

وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْأُمَمِ، قَدْ يَبْلُغُ فِيهَا الْفَسَادُ دَرَجَةً تَسْتَعْصِي فِيهَا مُعَالَجَتُهُ عَلَى أَطِبَّاءِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّهَا إِذَا تَنَبَّهَتْ قَبْلَ انْتِشَارِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَتَبْرِيحِهِ بِزُعَمَائِهَا وَدَهْمَائِهَا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مِنْ أَفْرَادِ الْمُصْلِحِينَ أَوْ جَمَاعَاتِهِمْ مَنْ يُنْقِذُهَا فَيُرْشِدُهَا إِلَى تَغْيِيرِ مَا بِأَنْفُسِهَا مِنَ الْفَسَادِ فَيُغَيِّرُ اللهُ مَا بِهَا، وَهُوَ مِنِ اسْتِئْخَارِ الْهَلَاكِ أَوْ مَنْعِهِ عَنْهَا قَبْلَ مَجِيءِ أَجَلِهَا.

وَقَدْ سَبَقَ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ إِلَى الْكَلَامِ فِي آجَالِ الْأُمَمِ وَأَعْمَالِ

الدُّوَلِ، وَبَيَانِ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْهَرَمِ، وَكَوْنِهِ إِذَا وَقَعَ لَا يَرْتَفِعُ، فَأَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ وَأَخْطَأَ فِي بَعْضٍ، وَمِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ جَعْلُهُ عُمْرَ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَجْيَالٍ أَيْ ١٢٠ سَنَةً كَالْأَجَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَفْرَادِ عَلَى تَقْدِيرِ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي الْأَطِبَّاءِ. وَلَوْ قَالَ: عُمْرُ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ اللهِ. طُفُولِيَّةٌ، وَبُلُوغُ أَشُدِّ وَرُشْدٍ، وَشَيْخُوخَةٍ وَهَرَمٍ. وَلَمْ يُقَدِّرْهَا بِالسِّنِينَ لَسَدَّدَ وَقَارَبَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالِانْغِمَاسِ فِي حَمْأَةِ الرَّذَائِلِ وَالْفِسْقِ قَدْ بَلَغَ مِنْ أُمَمِ أُورُبَّةَ مَبْلَغًا عَظِيمًا، فَمَا بَالَهَا تَزْدَادُ قُوَّةً وَعِزَّةً وَعَظَمَةً. حَتَّى صَارَتِ الْأُمَمُ الْمَغْلُوبَةُ عَلَى أَمْرِهَا، وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَذِلَّةُ لَهَا، تَعْتَقِدُ أَنَّ تَقْلِيدَهَا فِي مَدَنِيَّتِهَا الْمَادِّيَّةِ وَحُرِّيَّةِ الْفِسْقِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ - إِلَّا تَعَدِّي الْفَرْدِ عَلَى حُرِّيَّةِ غَيْرِهِ - هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهَا عَزِيزَةً سَعِيدَةً مِثْلَهَا.

قُلْنَا: إِنَّ تَأْثِيرَ الْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَمِ يُشْبِهُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأَفْرَادِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَمْزِجَةِ فِي احْتِمَالِ الْأَمْرَاضِ، وَاخْتِلَافِ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالْعِلَاجِ، فَأَطِبَّاءُ الْأَبْدَانِ مُجْمِعُونَ عَلَى مَضَارِّ السُّكَّرِ الْكَثِيرَةِ وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِلْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمَوْتِ، وَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْبَدَنِ الْقَوِيِّ دُونَ تَأْثِيرِهَا فِي الْبَدَنِ الضَّعِيفِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا يُبْطِئُ تَأْثِيرَ ضَرَرِهِ عَنْ تَأْثِيرِ الْكَثِيرِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا أَضَرُّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَطِبَّاءُ الِاجْتِمَاعِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْفِسْقِ وَالتَّرَفِ مُفْسِدٌ لِلْأُمَمِ، وَأَنَّ الظُّلْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْغُلُوَّ فِي الْمَطَامِعِ وَالْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنَازُعَ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَلَكِنْ لَدَى هَذِهِ الدُّوَلِ كَثِيرًا مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، كَالْأَدْوِيَةِ وَطُرُقِ الْوِقَايَةِ الَّتِي تُقَاوِمُ بِهَا سُرْعَةَ تَأْثِيرِ هَذِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>