للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا - وَقَدْ بَحَثَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي آجَالِ الْأَفْرَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلَا

شَكَّ فِي أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ أَجَلًا فِي عِلْمِ اللهِ وَفِي تَقْدِيرِهِ (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٦: ٢) فَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا نَفْيَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَلَا كَوْنَ النَّاسِ مَجْبُورِينَ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَبِالْوَحْيِ جَمِيعًا وَالْحَقُّ الْوَاقِعُ مِثَالٌ وَمِصْدَاقٌ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ فَاعِلًا فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَاشِفٌ لَهُ.

وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْخَلْقِ فَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا بِالْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ فِي مُتَوَسِّطِ تَقْدِيرِ أَطِبَّاءِ عَصْرِنَا. وَهُمْ يُقَدِّرُونَ لِكُلِّ فَرْدٍ عُمْرًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْ قُوَّةِ جِسْمِهِ وَأَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَوَظَائِفِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّقْدِيرِ أَنْ يَعِيشَ بِنِظَامٍ وَاعْتِدَالٍ وَتَقْوًى، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ اخْتَلَّ التَّقْدِيرُ وَبَعُدَ عَنِ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا بِحَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى. وَمَنْ قُتِلَ أَوْ غَرِقَ مَثَلًا قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ الْمُقَدَّرِ لَهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ انْتِهَاءِ عُمْرِهِ الطَّبِيعِيِّ أَوِ التَّقْدِيرِيِّ. وَلَكِنْ بِأَجَلِهِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي نَقْصِ الْعُمْرِ وَإِطَالَتِهِ وَالْإِنْسَاءِ فِيهِ بِالْأَسْبَابِ الْعَمَلِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجَلِ التَّقْدِيرِيِّ أَوِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَظْهَرِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ، وَهَنَاءُ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ طُولِ الْعُمْرِ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي مَنْشَؤُهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالرَّجَاءُ فِي مَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَضْعُفُ عَنْهُ أَوْ يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِهِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِالتَّجَارِبِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَكْدَارَ وَلَا سِيَّمَا الدَّاخِلِيُّ مِنْهَا كَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ تَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، يُضْعِفَانِ قُوَى النَّفْسِ الْحَيَوِيَّةِ وَيُهْرِمَانِ الْجِسْمَ قَبْلَ إِبَّانِ الْهَرَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً ... وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ

وَلِلْهُمُومِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمِثْلُهَا فِي تَقْصِيرِ الْعُمْرِ الطَّبِيعِيِّ قِلَّةُ الْغِذَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَدَنُ وَالْإِسْرَافُ فِيهِ وَفِي كُلِّ لَذَّةٍ. وَكَذَا فِي الرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ وَكَثْرَةِ التَّعَرُّضِ لِلنَّجَاسَةِ وَالسُّكْنَى فِي الْأَمْكِنَةِ الْقَذِرَةِ الَّتِي لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ وَلَا يَتَخَلَّلُهَا الْهَوَاءُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَكْفِي لِامْتِصَاصِ الرُّطُوبَاتِ وَقَتْلِ جَرَاثِيمِ الْفَسَادِ فِيهَا، وَالْأُمَمُ الْعَلِيمَةُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تُحْصِي دَائِمًا عَدَدَ الْمَرْضَى وَالْمَوْتَى فِيهَا، وَتَضَعُ لَهَا نِسَبًا حِسَابِيَّةً تَعْرِفُ بِهَا مُتَوَسِّطَ الْآجَالِ

فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِهَا ثُبُوتًا قَطْعِيًّا أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الْوَفِيَّاتِ تَحْسِينُ وَسَائِلِ الْمَعِيشَةِ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا، وَالتَّوَقِّي مِنَ الْأَمْرَاضِ بِاجْتِنَابِ أَسْبَابِهَا الْمَعْرُوفَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمُعَالَجَتُهَا بَعْدَ طُرُوئِهَا كَذَلِكَ. وَكُلُّ مَا ثَبَتَ وَوَقَعَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>