للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١٦: ٢٥) وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ عَذَابِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَوْ جَسَدِيٌّ وَنَفْسِيٌّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ النَّارَ فِي سُورَةِ الْهُمَزَةِ بِأَنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أَيِ الْقُلُوبِ، فَإِذَا رَأَى الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْعِقَابِ ظَنُّوا أَنَّ عَذَابَهُمْ كَعَذَابِهِمْ فِيمَا يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ وَالضَّرِيعِ وَيَشْرَبُونَ مِنَ الْمَاءِ الْحَمِيمِ، وَفِيمَا تَلْفَحُهُمُ النَّارُ بِرِيحِهَا السَّمُومِ، وَفِيمَا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ مِنْ ظِلِّهَا الْيَحْمُومِ، فَمَثَلُهُمْ مَعَهُمْ كَمَثَلِ الْمَسْجُونِينَ فِي الدُّنْيَا، مِنْهُمُ الْمُجْرِمُ الْعَرِيقُ فِي إِجْرَامِهِ مِنْ تُحُوتِ النَّاسِ وَأَشْقِيَائِهِمْ، وَالرَّئِيسُ الزَّعِيمُ فِي قَوْمِهِ، الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فِي وَطَنِهِ، لَا يَشْعُرُ الْأَوَّلُ بِمَا يُقَاسِيهِ الْآخَرُ مِنْ عَذَابِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الذُّلِّ. بَلْ يَظُنُّ أَنَّ عُقُوبَتَهُمَا وَاحِدَةٌ فِي أَلَمِهَا كَمَا هِيَ صُورَتُهَا.

وَحَمْلُ الْأُولَى عَلَى الرُّؤَسَاءِ الْمَتْبُوعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَالْأُخْرَى عَلَى أَتْبَاعِهِمُ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الزَّمَنِ أَوْ فِي دُخُولِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ شَأْنَ مُبْتَدِعِ الضَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الزَّمَنِ تَقَدُّمًا عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهَا وَلَوْ فِي عَصْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) (٣٤: ٣١) إِلَى آخِرِ الْحِوَارِ، وَمِثْلِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي سِيَاقِ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللهِ وَجَعْلِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَ اللهِ، أَوْ طَاعَتِهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِغَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَتَبَرُّؤِ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ (٢: ١٦٥ - ١٦٧) وَقَدِ اسْتَشْهَدْنَا فِي

تَفْسِيرِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فَيُرَاجَعُ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ بِالتَّفْصِيلِ أَنَّ كُلَّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَأَنَّ أَئِمَّةَ الْهُدَى مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْبِطُونَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَفْتَحُوا لِلنَّاسِ أَبْوَابَ الْفَهْمِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا، مَعَ نَهْيِهِمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِعَرْضِ كَلَامِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَخْذِ مَا وَافَقَهُمَا وَرَدِّ مَا عَدَاهُ. وَمِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ، وَأَئِمَّةُ الْعِتْرَةِ الَّذِينَ تَنْتَمِي إِلَيْهِمُ الشِّيعَةُ كَالْإِمَامَيْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. لَمْ يُبِحْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ التَّقْلِيدَ - وَقَدْ حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ - فَهُمْ بُرَآءُ مِنْ جَمِيعِ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي دِينِ اللهِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى. وَوَرَدَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْقَصَصِ وَالْأَحْزَابِ وَالصَّافَّاتِ وَص وَغَيْرِهِنَّ.

وَأَمَّا حَمْلُ الْأُولَى وَالْأُخْرَى عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ فِيهِ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ عَلَيْهِ: لَكِنْ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ضِعْفٌ، وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنَ اللَّفْظِ - لَا يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَلِلْقَاعِدَةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِقَدْرِهِ مَثَلًا. نَعَمْ إِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>