للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) التَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعْهُودٌ فِي الْأَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَلِيغَةِ، وَأَشْهَرُ نُكَتِهِ جَعْلُ الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَالَّذِي وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ سَوْفَ يُنَادُونَ أَصْحَابَ النَّارِ حَتَّى إِذَا مَا وَجَّهُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِمْ سَأَلُوهُمْ سُؤَالَ تَبَجُّحٍ وَافْتِخَارٍ بِحُسْنِ حَالِهِمْ، وَتَهَكُّمٍ وَتَذْكِيرٍ بِمَا كَانَ مِنْ جِنَايَةِ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَتَقْرِيرٍ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا بَلَّغُوهُمْ مِنْ وَعْدِ رَبِّهِمْ لِمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ قَائِلِينَ. قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ فِيهِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ حَقًّا؟ .

قَالُوا: (وَعدَنَا رَبُّنَا) وَلَمْ يَقُولُوا لِأَهْلِ النَّارِ: (وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ) بَلْ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ - لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَحَلٌّ لِذَلِكَ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّ

أَهْلَ النَّارِ لَيْسُوا مَحَلًّا لَهُ، فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ كَمَا وُجِّهَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (١٣: ٣٥) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٤٧: ١٥) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَهُ: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ) (٤٠: ٨) وَقَوْلِهِ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) (١٩: ٦١) وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَعْدَ خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي الْخَيْرِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَكِنَّ الْوَعِيدَ خَاصٌّ بِالشَّرِّ أَوِ السُّوءِ، وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ، وَمَا وَعَدَ بِهِ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَصَاهُ حَقًّا بِدُخُولِنَا الْجَنَّةَ وَدُخُولِكُمُ النَّارَ؟ وَهَذَا يُوَافِقُ قَاعِدَةَ حَذْفِ الْمَعْمُولِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُطْلَقُ الْوَعْدُ فِي الشَّرِّ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَوْعُودِ بِهِ صَرَاحَةً وَلَا ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَّا إِذَا قُيِّدَ بِتَعَلُّقِهِ بِالشَّرِّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهُ تَوَعُّدًا لِلتَّهَكُّمِ أَوْ لِلْمُشَاكَلَةِ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الْخَيْرِ أَوْ لِلتَّغْلِيبِ، فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٢٢: ٧٢) وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) (٢: ٢٦٨) عَلَى أَنَّ لِوَعْدِ الشَّيْطَانِ هُنَا نُكْتَةً أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ شَرٌّ فِي صُورَةِ الْخَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخِدَاعِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَسْوَسَةِ لِلْمَرْءِ بِتَرْكِ الصَّدَقَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ اتِّقَاءً لِلْفَقْرِ بِذَهَابِ مَالِهِ، وَتَظْهَرُ مُقَابَلَةُ الْمُشَاكَلَةِ فِي وَعْدِ اللهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٦٨ و٧٢) وَالثَّالِثُ: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) (٣٦: ٥٢) أَشَارَ إِلَى الْبَعْثِ. وَلَكِنْ فِي التَّنْزِيلِ مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ، كَقَوْلِهِ فِي وَعِيدِ قَوْمِ صَالِحٍ: (ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (١١: ٦٥) وَلَهُ نَظَائِرُ، عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>