مَوْضُوعٌ لِبَيَانِ صِفَةِ الْخَلْقِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخَالِفَ الْوَاقِعَ إِذَا كَانَ وَحْيًا مِنَ اللهِ: وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَجْلِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا آنِفًا.
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أَيْ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِ اسْتَوَى بَعْدَ تَكْوِينِ هَذَا الْمُلْكِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيُصَرِّفُ نِظَامَهُ حَسَبَ تَقْدِيرِهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١٠: ٣) وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣: ٢، ٣) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.
الْعَرْشُ فِي الْأَصْلِ الشَّيْءُ الْمُسَقَّفُ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَبَيَّنَّا اشْتِقَاقَهُ فِي تَفْسِيرِ الْجَنَّاتِ الْمَعْرُوشَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى هَوْدَجٍ لِلْمَرْأَةِ يُشْبِهُ عَرِيشَ الْكَرْمِ، وَعَلَى سَرِيرِ الْمَلِكِ وَكُرْسِيِّهِ الرَّسْمِيِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَحَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ فِي اللُّغَةِ التَّسَاوِي وَاسْتِقَامَةُ الشَّيْءِ وَاعْتِدَالُهُ، وَمِنَ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْأَسَاسِ: اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى السَّرِيرِ وَالْفِرَاشِ، وَانْتَهَى شَبَابُهُ وَاسْتَوَى، وَاسْتَوَى عَلَى الْبَلَدِ اهـ، وَقَالَ فِي مَادَّة عَ رَشَ: وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ إِذَا مَلَكَ، وَثَلَّ عَرْشُهُ إِذَا هَلَكَ اهـ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَاسْتَوَى عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ - كِنَايَةً عَنِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ، كَمَا قِيلَ: مَبْسُوطُ الْيَدِ وَمَقْبُوضُ الْيَدِ، كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ اهـ.
لَمْ يَشْتَبِهْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي مَعْنَى اسْتِوَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى عِلْمِهِمْ بِتَنَزُّهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ، إِذْ كَانُوا يَفْهَمُونَ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ أَمْرِ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ وَانْفِرَادِهِ هُوَ بِتَدْبِيرِهِ. وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُنْهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ وَصِفَتِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ، بَلْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عَرْشٍ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ لِلَّهِ عَرْشًا خَلَقَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَأَنَّ لَهُ حَمَلَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ كَمَا تَدُلُّ اللُّغَةُ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ:
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) (١١: ٧) وَلَكِنَّ عَقِيدَةَ التَّنْزِيهِ الْقَطْعِيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ كَانَتْ مَانِعَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ شُبْهَةَ تَشْبِيهٍ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ. كَيْفَ وَأَنَّ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الضَّعِيفَةِ لَفْظِيَّةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute