للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَوِّ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ الْقِرَاءَتَيْنِ أَنَّ الرِّيحَ الْوَاحِدَةَ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ أَحْيَانًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ كَمَا تُبَشِّرُ بِهِ رِيحَانِ فِي قُطْرٍ آخَرَ، أَوْ أَنَّ الرِّيَاحَ بِأَنْوَاعِهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ فِي الْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، عَلَى أَنَّ الرِّيحَ يُرَادُ بِهَا عِنْدَ إِطْلَاقِهَا الْجِنْسُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ كَغَيْرِهِ: إِنْ عَامَّةَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا إِرْسَالَ الرِّيحِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَعِبَارَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ رَأَى أَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا فِي بَيَانِ آيَاتِ اللهِ أَوْ رَحْمَتِهِ وَلَا سِيَّمَا رَحْمَةُ الْمَطَرِ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْمُفْرَدَةُ فَذُكِرَتْ فِي عَذَابِ قَوْمِ عَادٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (٣: ١١٧) وَقَوْلِهِ: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) (١٤: ١٨) وَقَوْلِهِ: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (٢٢: ٣١) وَنَحْوِهِ فِي التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: (فَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيِحِ) (١٧: ٦٩) الْآيَةَ. وَلَكِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ بِالتَّقَابُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) (١٠: ٢٢) الْآيَةَ، وَرَدَتْ فِي مَقَامِ

الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ بِتَسْخِيرِهَا لِسُلَيْمَانَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَبَإٍ وَصَ.

(وَقَوْلُهُ) تَعَالَى: (بُشْرًا) قَرَأَهُ عَاصِمٌ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الشِّينِ، مُخَفَّفُ بُشُرٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ بَشِيرٌ كَنُذُرٍ جَمْعُ نَذِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بَشْرًا بِالتَّخْفِيفِ حَيْثُ وَقَعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ نَشْرًا بِفَتْحِ النُّونِ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ بِمَعْنَى نَاشِرَاتٍ أَوْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ وَالنَّشْرَ مُتَقَارِبَانِ.

(حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَأَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّ بِهِ رَفَعَهُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَمَلْتَهُ فَقَدْ أَقْلَلْتَهُ، وَأَقْلَلْتُهُ عَنِ الْأَرْضِ رَفَعْتُهُ أَيْضًا، قِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِلَّةِ بِالْكَسْرِ لِقَوْلِهِمْ أَقَلَّهُ وَاسْتَقَلَّهُ أَيْ وَجَدَهُ قَلِيلًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ: أَقَلَّ الْقُلَّةَ - وَهِيَ بِالضَّمِّ الْجَرَّةُ - فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ قُلَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقِلُّهَا أَيْ يَحْمِلُهَا أَوْ يَرْفَعُهَا بِيَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ، وَالسَّحَابُ الْغَيْمُ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدٍ بِالتَّاءِ فَيُقَالُ سَحَابَةٌ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُفْرَدُ وَصْفُهُ وَيُجْمَعُ، وَالثِّقَالُ مِنْهُ الْمُتَشَبِّعَةُ بِبُخَارِ الْمَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّبَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، لِعِبَادِهِ بِالْمَطَرِ، أَيْ قُدَّامَهَا مُبَشِّرَاتٍ بِهَا وَنَاشِرَاتٍ لِأَسْبَابِهَا حَتَّى إِذَا حَمَلَتْ سَحَابًا ثِقَالًا وَرَفَعَتْهُ فِي الْهَوَاءِ (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أَيْ سَيَّرْنَاهُ وَسُقْنَاهُ بِهَا إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ أَيْ أَرْضٍ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِنَّمَا حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ الْحَيِّ فِيهَا " فَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى " كَمَا فِي آيَةِ فَاطِرٍ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ٣٥: ٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>