للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَالْجَوَابُ) أَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ الْأَمْرَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ الرُّوحُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ عَلَى الْإِدْرَاكَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَهُوَ

الْمَبْدَأُ لِلْكُلِّ، وَإِنِ اعْتُبِرَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يَلْزَمُ أَنْ يُعَادَ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ الْكَائِنَةِ مِنْ أَوَّلِ التَّكْلِيفِ إِلَى الْمَمَاتِ وَلَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ.

" وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْإِعَادَةَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَيَكُونُ وَاقِعًا. أَمَّا الْإِمْكَانُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا عُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ أَوْ تَفَرَّقَ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِذَلِكَ. وَالْفَاعِلُ هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلِمَا تَوَاتَرَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَلِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نُصُوصٍ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرُهَا التَّأْوِيلَ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣٦: ٧٨، ٧٩) . (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣٦: ٥١) . (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١٧: ٥١) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (٧٥: ٣، ٤) (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٤١: ٢١) (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (٤: ٥٦) (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) (٥٠: ٤٤) (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (١٠٠: ٩) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنَ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا (وَهِيَ) كَثِيرَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ، فَإِثْبَاتُ الْحَشْرِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ بِيَقِينٍ.

(فَإِنْ قِيلَ) : الْآيَاتُ الْمُشْعِرَةُ بِالْمِيعَادِ الْجُسْمَانِيِّ لَيْسَتْ أَكْثَرَ وَأظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ وَجَبَ تَأْوِيلُهَا قَطْعًا، فَلْنَصْرِفْ هَذِهِ أَيْضًا إِلَى بَيَانِ الْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ وَأَحْوَالِ سَعَادَةِ النُّفُوسِ وَشَقَاوَتِهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَبْدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَفْهَمُهُ الْعَوَامُّ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَبْعُوثُونَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلَائِقِ لِإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَتَبْقِيَةِ النِّظَامِ الْمُفْضِي إِلَى صَلَاحِ الْكُلِّ، وَذَلِكَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْبِشَارَةِ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ لَذَّةً وَكَمَالًا، وَالْإِنْذَارِ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ أَلَمًا وَنُقْصَانًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَوَامٌّ تَقْصُرُ عُقُولُهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَتَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَرِفُوهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالنُّقْصَانَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. فَوَجَبَ أَنْ تُخَاطِبَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بِمَا هُوَ مِثَالٌ لِلْمَعَادِ الْحَقِيقِيِّ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا لِلْعَوَامِّ، وَتَتْمِيمًا لِأَمْرِ النِّظَامِ. وَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ مَثَلٌ وَخَيَالَاتٌ لِلْفَلْسَفَةِ.

(قُلْنَا) : إِنَّمَا يَجِبُ التَّأْوِيلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الظَّاهِرِ وَلَا تَعَذُّرَ هَاهُنَا، سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْبَدَنِ الْمُعَادِ مِثْلَ الْأَوَّلِ لَا عَيْنَهُ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَنُصُوصِ الْكِتَابِ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>