عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ لَا تَتَوَلَّدُ إِلَّا مِنْهَا؟ إِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ بِهَذَا وَلَا بِمَا قَبْلَهُ (مَا أَشْهَدَتْهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (١٨: ٥١) .
أَطَالَ شَيْخُنَا حُسَيْنُ الْجِسْرُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَأَثْبَتَ أَنَّهَا مِنَ الْمُمْكَنَاتِ إِذْ لَا مُحَالَ فِي إِيدَاعِ الْمَلَايِينِ الْكَثِيرَةِ مِنَ النَّسَمِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ فِي نُقْطَةِ الْمَاءِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْحَيَّةِ بِعَدَدِ جَمِيعِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ، وَارْتَأَى أَنَّ مُسْتَوْدَعَهَا مِنْ آدَمَ كَانَ فِي مَنِيِّهِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ بِالْوِقَاعِ (قَالَ) " فَتَحِلُّ فِي الْبُزُورِ الَّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ مِبْيَضِ زَوْجَتِهِ فَيَكُونُ هَيَاكِلُهَا مِنْ تِلْكَ الْبُزُورِ مَعَ السَّائِلِ الْمَنَوِيِّ وَيُطَوِّرُهَا أَطْوَارًا حَتَّى تَبْلُغَ صُورَةَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَوَّلُ ذَرَّةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ نَقَلَهَا إِلَى بِزْرَتِهَا نَقَلَ مَعَهَا عَدَدَ الذَّرَّاتِ الَّتِي تَكُونُ أَوْلَادًا لَهَا ثُمَّ يَنْقِلُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ فِيمَا بَعْدُ عَنْ هَيْكَلِ هَذِهِ الذَّرَّةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي بَقِيَّةِ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ يَفْعَلُ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. . . وَعِنْدَ بُلُوغِ كُلِّ هَيْكَلٍ إِلَى حَدٍّ مَحْدُودٍ يُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى الرُّوحَ فَتَحِلُّ فِي ذَرَّتِهَا وَتَسْرِي فِيهَا وَفِي هَيْكَلِهَا الْحَيَاةُ وَالْحَرَكَةُ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ هُوَ مَجْمُوعُ الرُّوحِ وَالذَّرَّةِ، وَهَذِهِ الذَّرَّةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي قَالَ بِهَا أَتْبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا الْبَاقِيَةُ مُدَّةَ الْعُمْرِ وَهِيَ الْمُعَادَةُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ تُفَارِقَهَا بِالْمَوْتِ، وَالْهَيْكَلُ هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ الَّتِي تَرُوحُ وَتَجِيءُ وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ. فَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى مَوْتَ الْإِنْسَانِ فَصَلَ عَنْ ذَرَّتِهِ الرُّوحَ، فَفَارَقَتْهَا
الْحَيَاةُ وَفَارَقَتِ الْهَيْكَلَ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ وَحَلَّهُمَا الْمَوْتُ، فَيَأْخُذُ الْهَيْكَلُ بِالِانْحِلَالِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالدُّخُولِ فِي تَرْكِيبِ غَيْرِهِ مَا يَجْرِي، وَالذَّرَّةُ مَحْفُوظَةٌ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى كَمَا تُحْفَظُ ذَرَّاتُ الذَّهَبِ مِنَ الْبِلَى وَالِانْحِلَالِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي تَرْكِيبِ حَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ هَيْكَلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ مَحْفُوظَةً غَيْرَ مُنْحَلَّةٍ، فَإِذَا انْحَلَّ ذَلِكَ الْهَيْكَلُ عَادَتْ مَحْفُوظَةً فِي أَطْبَاقِ الثَّرَى وَلَا تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ لِذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ، غَايَةُ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا بِالْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لَهَا، وَانْحِلَالُ هَيْكَلِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى حَيَاتَهَا أَعَادَ الرُّوحَ إِلَيْهَا، فَتَعُودُ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ وَبَقِيَّةُ خَوَاصِّهَا وَإِنْ كَانَ هَيْكَلُهَا مُنْحَلًّا.
وَمِنْ هُنَا تَنْحَلُّ شُبَهُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ الَّتِي وَرَدَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ قَبْلَ الْبَعْثِ.
" ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ الْخَلْقَ لِلْحِسَابِ أَعَادَ تَكْوِينَ هَيَاكِلِ الذَّرَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَجْزَاءُ الْفَضْلِيَّةُ، سَوَاءً كَانَتْ هِيَ الْأَجْزَاءَ السَّابِقَةَ أَوْ غَيْرَهَا - إِذِ الْمَدَارُ عَلَى عَدَمِ تَبَدُّلِ الذَّرَّاتِ، وَأَحَلَّ الذَّرَّاتِ فِي تِلْكَ الْهَيَاكِلِ، وَبِتَعَلُّقِ الرُّوحِ بِهَا تَقُومُ فِيهَا وَفِي هَيَاكِلِهَا الْحَيَاةُ، وَيَقُومُ الْبَشَرُ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ كَمَا كَانُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا فِي بَقِيَّةِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ تَفْصِيلِهِ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute