للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْ يَرْتَفِعَ فِي الْجَوِّ وَيَحِلُّ مَحَلَّهُ هَوَاءٌ أَبْرَدُ مِنْهُ لِحِفْظِ التَّوَازُنِ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (٦٧: ٣) وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي حُدُوثِ الرِّيَاحِ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَرَارَةَ الْأَرْضِ تَكُونُ عَلَى أَشُدِّهَا فِي خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ وَسَطُ عَرْضِ الْأَرْضِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ، حَيْثُ تَكُونُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَمُودِيَّةً فَيَكُونُ تَأْثِيرُ حَرَارَتِهَا فِي الْأَرْضِ عَلَى أَشُدِّهِ، ثُمَّ يَضْعُفُ تَأْثِيرُهَا فِي جِهَتَيِ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ حَيْثُ تَقَعُ الْأَشِعَّةُ مَائِلَةً بِقَدْرِ هَذَا الْمَيْلِ فَتَكُونُ الْحَرَارَةُ مُعْتَدِلَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَارِدَةً حَتَّى تَصِلَ فِي مِنْطَقَةِ الْقُطْبَيْنِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَلِيدِ الدَّائِمِ لِقِلَّةِ مَا يُصِيبُهَا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَائِلًا فِي الْأُفُقِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ سُنَّتُهَا يَوْمًا وَاحِدًا نِصْفُهُ لَيْلٌ وَنِصْفُهُ نَهَارٌ، وَلَيْلُ كُلٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْقُطْبَيْنِ نَهَارُ الْآخَرِ. وَتَحْدِيدُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَوْضِعُهُ عِلْمُ (الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوِ الرِّيَاضِيَّةِ) وَلِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْقُرْبِ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ، أَهَمُّهَا الْجِبَالُ وَالْأَنْجَادُ وَالْأَغْوَارُ وَالْقُرْبُ أَوِ الْبُعْدُ مِنَ الْبِحَارِ.

لَوْلَا حَرَكَةُ الْهَوَاءِ وَحُدُوثُ الرِّيَاحِ بِمَا ذَكَرْنَا لَازْدَادَتْ حَرَارَةُ الْبِقَاعِ الْحَارَّةِ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ حَتَّى تَكُونَ مُحْرِقَةً لِكُلِّ شَيْءٍ فِيهَا، وَلَازْدَادَ قَرُّ الْبِقَاعِ الْبَارِدَةِ حَتَّى يَيْبَسَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا فَيَكُونُ جَلِيدًا كَمَا يَحْصُلُ لِأَسْمَاكِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الشَّمَالِيَّةِ، الَّتِي تُجَمَّدُ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ حَتَّى إِذَا مَا عَادَتْ مِيَاهُهَا إِلَى سَيَلَانِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ لَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاكُ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ وَسَائِرُ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ.

بِالرِّيَاحِ يَنْتَفِعُ جَوُّ كُلٍّ مِنَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، مِنْ جَوِّ الْآخَرِ بِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا، فَبِارْتِفَاعِ هَوَاءِ الْمِنْطَقَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْحَارِّ لِخِفَّتِهِ وَانْخِفَاضِ هَوَاءِ الْقُطْبَيْنِ لِثِقْلِهِ يَحْدُثُ فِي كُلٍّ مِنْ

نِصْفَيْ كُرَةِ الْأَرْضِ تَيَّارَانِ هَوَائِيَّانِ بَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ وَطَرَفَيْهَا - كَمَا يَحْدُثُ فِي جَوِّ كُلِّ قُطْرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِنَّ الْحَرَّ يَشْتَدُّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ مِنَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى إِلَى وَقْتِ الْأَصِيلِ أَوْ إِلَى اللَّيْلِ فَيَرْتَفِعُ وَيَأْتِي بَدَلَهُ هَوَاءٌ مُعْتَدِلٌ لَطِيفٌ مِنْ جَوِّنَا نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ - وَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَرُّ الشَّدِيدُ عِدَّةَ أَيَّامٍ يَخْلُفُهُ هَوَاءٌ بَارِدٌ مُعْتَدِلٌ أَيَّامًا أُخْرَى. وَهُوَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الْأَقْطَارِ الْمُجَاوِرَةِ لَنَا - فَكُلَّمَا كَانَتْ حَرَكَةُ الرِّيحِ شَدِيدَةً كَانَ مَدَاهَا أَبْعَدَ، وَأَقَلُّ حَرَكَةٍ فِي الْهَوَاءِ تُرِيكَ كَيْفَ يُعْدَلُ الْجَوُّ مَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَخْتَبِرَهُ فِي حُجْرَتِكَ إِذَا فَتَحْتَ نَافِذَةً فِيهَا وَأَخَذْتَ شَمْعَةً أَوْ ذُبَالَةً - فَتِيلَةً - مُوقَدَةً فَوَضَعْتَهَا فِي أَعْلَى النَّافِذَةِ مَرَّةً وَفِي أَسْفَلِهَا أُخْرَى، فَإِنَّكَ تَرَى النُّورَ فِي أَسْفَلِهَا مَائِلًا نَحْوَكَ وَفِي أَعْلَاهَا مَائِلًا عَنْكَ إِلَى خَارِجِ الْحُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ الْحَارَّ الَّذِي فِي الْحُجْرَةِ هُوَ الْخَفِيفُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَعْلَاهَا وَيَدْخُلُ بَدَلَهُ هَوَاءُ الْجَوِّ الَّذِي هُوَ أَبْرَدُ مِنْ هَوَاءِ الْحُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْهَوَاءُ الْخَارِجِيُّ أَشَدَّ حَرَارَةً مِنْ هَوَاءِ الْبُيُوتِ فِي أَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّيحِ السَّمُومِ

<<  <  ج: ص:  >  >>