(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أَيْ وَتَذَكَّرُوا ذَلِكَ الزَّمَنَ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ قَلِيلِي الْعَدَدِ فَكَثَّرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِمَا بَارَكَ فِي نَسْلِكُمْ فَاشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَاتِّبَاعِ وَصَايَاهُ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَتَرْكِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
(وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) مِنَ الشُّعُوبِ الْمُجَاوِرَةِ لَكُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِفَسَادِهِمْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عِبْرَةٌ فِي ذَلِكَ.
(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ إِنْ كَانَ بَعْضُكُمْ قَدْ آمَنَ بِمَا أَرْسَلَنِي
اللهُ بِهِ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ لِلْإِصْلَاحِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِفْسَادِ، وَبَعْضُكُمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ بَلْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَسَتَكُونُ عَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الْبَاطِلِ وَالْجَوْرِ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْ كُفَّارُكُمْ بِعَاقِبَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَسَيَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ، فَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
حُكْمُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ نَوْعَانِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُوحِيهِ إِلَى رُسُلِهِ، وَحُكْمٌ فِعْلِيٌّ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى عَدْلِهِ وَسُنَنِهِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (٥: ١) فَإِنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَإِحْلَالِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ. وَمِنَ الثَّانِي مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ رَسُولِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (١٠: ١٠٩) وَفِي مَعْنَاهُ مَا خُتِمَتْ بِهِ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ فِي مَوْضُوعِ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (٢١: ١٠٨ - ١١٢) وَإِنَّمَا حُكْمُهُ تَعَالَى بَيْنَ الْأُمَمِ بِنَصْرِ أَقْرَبِهَا إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْحَقُّ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَلْيَعْتَبِرِ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، وَلْيَعْرِضُوا حَالَهُمْ وَحَالَ دُوَلِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute