للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ الْمَعْنَى لِمَادَّةِ (الْفَتْحِ) كَمَا حَقَّقَهُ الرَّاغِبُ: إِزَالَةُ الْإِغْلَاقِ وَالْإِشْكَالِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ كَفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقُفْلِ وَالْغَلْقِ وَالْمَتَاعِ مِنْ صُنْدُوقٍ وَغِرَارَةٍ وَخُرْجٍ وَعُلْبَةٍ، وَالثَّانِي: هُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ كَفَتْحِ أَبْوَابِ الرِّزْقِ، وَالْمُغْلَقِ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَالْمُبْهَمِ مِنْ قَضَايَا الْحُكْمِ، وَالنَّصْرِ فِي وَقَائِعِ الْحَرْبِ، وَفِي آيَاتِ الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالَاتٌ مِنَ الضَّرْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَلَكَ أَنْ تُقَسِّمَهُ إِلَى حِسِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، وَمِنَ الْأَوَّلِ: الْفَتْحُ الَّذِي يَكُونُ بِالْكَلَامِ كَحُكْمِ الْقَاضِي، وَفَتْحِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَةَ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا أَوْ وَقَفَ عَنِ الْقِرَاءَةِ نَاسِيًا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا، وَإِلَى حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، وَمِنْ مَجَازِ الْأَسَاسِ: فَتْحٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا جَدَّ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ: نَصَرَهُ، وَفَتَحَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ فُتَاحَتَهُ؛ أَيْ: حُكْمَهُ، قَالَ:

أَلَا أَبْلِغْ بَنِي وَهْبٍ رَسُولَا ... بِأَنِّي عَنْ فُتُحَاتِهِمْ غَنِيُّ

وَبَيْنَهُمْ فُتَاحَاتٌ؛ أَيْ: خُصُومَاتٌ، وَفُلَانٌ وَلِيَ الْفِتَاحَةَ - بِالْكَسْرِ - وَهِيَ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَفَاتَحَهُ: حَاكَمَهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنٍ، تَقُولُ لِزَوْجِهَا: تَعَالَى أُفَاتِحُكَ، وَقَالَتْ أَعْرَابِيَّةٌ لِزَوْجِهَا: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ اهـ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ قُدَمَاءُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَفَسَّرَ الْمُفَاتَحَةَ فِيهِ بِالْمُقَاضَاةِ، وَهُوَ يَدُلُّ لُغَةً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرَشِيَّةً بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ أَنَّهَا يَمَانِيَّةٌ، وَخَصَّهَا بَعْضُهُمْ بِالْحِمْيَرِيَّةِ، وَذُو يَزَنٍ مِنْ أَسْمَائِهِمْ، وَالْمُنَاسِبُ أَنَّ كُلَّ فَتْحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَمِنْهُ النَّصْرُ، وَمِنَ الْآيَاتِ فِيهِ: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٣٤: ٢٦) وَمِنْهَا حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٦: ١١٨) وَهَذَا عَيْنُ مُرَادِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ الْمُلَاقِي لِإِنْذَارِهِ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ (٧: ٨٧) إِلَخْ.

وَالْمَعْنَى: رَبَّنَا احْكُمْ وَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّتُكَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُحَقِّقِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالْمُبْطِلِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِكَ بِمَا يَقَعُ فِي التَّخَاصُمِ، وَتَنَزُّهِكَ عَنِ الظُّلْمِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>