للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا وُضِعَ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا يُسَمِّيهِ الدَّجَاجِلَةُ الْآنَ " كِتَابَ الْبِغْضَةِ " وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ بِطَبْعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ أَوْ بِخَارِقَةٍ لَا تُعْقَلُ لَهَا عِلَّةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ لِمَا يَتَعَلَّمُونَهُ هَلْ هُوَ كِتَابَةُ تَمَائِمَ، أَوْ تِلَاوَةُ رُقًى وَعَزَائِمَ، أَوْ أَسَالِيبُ سِعَايَةٍ، أَوْ دَسَائِسُ تَنْفِيرٍ وَنِكَايَةٍ، أَوْ تَأْثِيرٌ نَفْسَانِيٌّ، أَوْ وَسْوَاسٌ شَيْطَانِيٌّ؟ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ عِلْمًا كَانَ تَفْصِيلًا لِمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي الْوَاقِعِ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَحَكَّمَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ مَا ذَكَرَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنَا فِي بَيَانِ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي مِثْلِهِ مِرَارًا.

لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ وَلَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى بَحْثِ الْبَشَرِ وَارْتِقَائِهِمْ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ وَبَيَانِ الْحَقِّ فِيهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ السِّحْرِ عَنْهُمْ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ غَيْبِيَّةٌ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ، وَفَوْقَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْقُوَى وَالْقَدَرِ،

فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ أُصِيبَ أَحَدٌ بِضَرَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِذْنِ اللهِ، أَيْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَحْصُلَ الْمُسَبِّبَاتُ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ عِنْدَ حُصُولِهَا بِإِذْنِ اللهِ - تَعَالَى. وَهَذَا الْحُكْمُ التَّوْحِيدِيُّ هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ، فَالْقُرْآنُ لَا يُتْرَكُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بَلْ يُبَيِّنُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَرِدُ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَجْلِ بَيَانِ الْحَقِّ فِي مَسْأَلَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ إِيرَادَ الْأَحْكَامِ فِي سِيَاقِ الْوَقَائِعِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَعْصَى عَلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ الْقُوَّةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَسْبَابِ عَنْهُمْ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، يَضُرُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ يُعَاقِبُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ عُرِفَ بِإِيذَاءِ النَّاسِ يَمْقُتُهُ النَّاسُ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الضَّارِّ مِنْ جِهَةٍ نَافِعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى - وَرُبَّمَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَكْبَرَ مِنْ إِثْمِهِ - نَفَى الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْمَضَرَّةِ. فَهَذَا النَّفْيُ وَاجِبٌ فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ - تَعَالَى - فَإِنَّنَا نَرَى مُنْتَحِلِي السِّحْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَفْقَرَ النَّاسِ وَأَحْقَرَهُمْ، وَلَوْ عَقَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِمْ يَلْتَمِسُونَ الْمَنَافِعَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِيقَاعَ بِأَعْدَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ الشَّقِيَّ فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهَبَ السَّعَادَةَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فَاقِدَ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ، هَذِهِ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٢: ٢٨١) لَا جَرَمَ أَنَّهَا تَكُونُ حَالًا سُوْأَى، وَالْيَهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ اخْتَارَ هَذَا وَاسْتَبْدَلَهُ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ الْمُوصِلِينَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ حَظَرَتْ تَعْلِيمَ السِّحْرِ، وَجَعَلَتْهُ كَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشَدَّدَتِ الْعُقُوبَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>