للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِذَا أُرِيدَ بِبَرَكَاتِ السَّمَاءِ الْمَطَرُ، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ النَّبَاتُ، كَمَا قِيلَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَبْوَابُ نِعَمٍ لَا تَكُونُ بَرَكَاتٍ لَهُمْ غَيْرَ الَّتِي عَهِدُوهَا فِي صِفَاتِهَا وَنَمَائِهَا وَثَبَاتِهَا وَحَالَتِهِمْ فِيهَا وَأَثَرِهَا فِيهِمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ بَرَكَاتٍ، فَإِنَّ مَادَّةَ الْبَرَكَةِ تَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ وَالزَّكَاءِ مِنْ بِرْكَةِ الْمَاءِ، وَعَلَى الثَّابِتِ وَالِاسْتِقْرَارِ مِنْ بَرَكَ الْبَعِيرُ، أَلَمْ تَقْرَأْ أَوْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هُودٍ: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١: ٨٤) فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَرَكَاتِ، وَجَعَلَ نِعْمَةَ الدُّنْيَا مَتَاعًا مُؤَقَّتًا لِلْكَافِرِينَ يَتْلُوهُ الْعَذَابُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْهُمْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ فِي تِلْكَ الْبَرَكَاتِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَفِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يَعْنِي مِمَّنْ لَمْ يُولَدْ، أَوْجَبَ لَهُمُ الْبَرَكَاتِ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يَعْنِي مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ.

فَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ وَدِينَ الْحَقِّ سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَتِهَا بِالْحَقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمَادِّيِّ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ (٦: ٤٤) فَذَلِكَ الْفَتْحُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ لِحَالِهِمْ، كَانَ أَثَرُهُ فِيهِمْ فَرَحَ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ بَدَلًا مِنَ الشُّكْرِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ فَكَانَ نِقْمَةً لَا نِعْمَةً، وَفِتْنَةً لَا بَرَكَةً.

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ: فَإِنَّ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ يَكُونُ بَرَكَةً وَنِعْمَةً، وَيَكُونُ أَثَرُهُ فِيهِمُ الشُّكْرَ لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا مِنْهُ، وَالِاغْتِبَاطَ بِفَضْلِهِ، وَاسْتِعْمَالَهُ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ، وَفِي الْإِصْلَاحِ دُونَ الْإِفْسَادِ، وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى زِيَادَةَ النِّعَمِ وَنُمُوَّهَا فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنَ الثَّوَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، فَالْفَارِقُ بَيْنَ الْفَتْحَيْنِ يُؤْخَذُ مِنْ جَعْلِ هَذَا مِنَ الْبَرَكَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمِنْ تَنْكِيرِهِ الدَّالِّ عَلَى أَنْوَاعٍ لَمْ يَعْهَدْهَا الْكُفَّارُ.

وَمِمَّا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَايَةَ هِدَايَةِ الْإِيمَانِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِلْبَشَرِ مُوَجَّهًا لِأَبَوَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ فِي سُورَةِ طَهَ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (٢٠: ١٢٣، ١٢٤) وَقَوْلُهُ فِي خِطَابِ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِخَوَاصِّ هَذَا النَّوْعِ، وَحِكَمِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِدِينِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ لِهِدَايَتِهِ: يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣١، ٣٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>