للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا يُسَمَّى طَبِيعَةً، وَمِنْهُ طَبْعُ الْكُتُبِ فِي الْآلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَطْبَعَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالتَّغْيِيرَ كَالْخَطِّ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا أَحْبَارًا لَا تُمْحَى أَيْضًا.

وَلَا يُسْتَعْمَلُ الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ إِلَّا فِي الشَّرِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهَا وَصَلَتْ مِنَ الْفَسَادِ إِلَى حَالَةٍ لَا تَقْبَلُ مَعَهَا خَيْرًا كَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي هُوَ فِقْهُ الْأُمُورِ وَلُبَابُهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي اسْتِحْلَالًا وَاسْتِحْسَانًا لَهَا حَتَّى لَا يَعُودَ فِي النَّفْسِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ١٥٥) أَيْ: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٩: ٨٧) وَمِثْلُهُ فِي سُورَتِهِمْ، وَقَالَ هُنَا: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ أَيْ: فَهُمْ بِهَذَا الطَّبْعِ لَا يَسْمَعُونَ الْحُكْمَ وَالنَّصَائِحَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ وَاتِّعَاظٍ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠: ١٠١) مَا يُرَادُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ مُلِئَتْ بِمَا يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا مِنْ آرَاءٍ وَأَفْكَارٍ وَشَهَوَاتٍ مَلَكَتْ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى صَرَفَتْهُمْ عَنْ غَيْرِهَا فَجَعَلَتْهُمْ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٨: ١٠٤) .

قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِانْتِقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ قَبْلَهُمْ وَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ؛ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا تُغْفَرُ كَذُنُوبِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ؛ وَسُنَّتَهُ فِيهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ قَصَّرُوا

أَوَّلًا فِي تَفْسِيرِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، ثُمَّ فِي وَعْظِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَإِنْذَارِهِمْ عَاقِبَةَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الِاتِّعَاظِ بِتَدَبُّرِهَا، وَمَنْ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ تَفْسِيرِهَا فَإِنَّمَا يُعْنَى بِإِعْرَابِهَا، وَالْبَحْثِ فِي أَلْفَاظِهَا، أَوْ جَدَلِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَعَانِيَهَا خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، وَيُفَسِّرُونَ الْكَافِرِينَ بِمَنْ لَا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَطَالَمَا أَنْكَرَ عَلَيْنَا بَعْضُ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، أَنَّنَا جَعَلْنَا الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ شَامِلَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مَأْفُوكِينَ عَنْ تَدَبُّرِهَا الْمُرَادِ مِنْهَا جَاهِلِينَ لِلسُّنَنِ الْعَامَّةِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَظَنُّوا كَمَا ظَنُّوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحَابِي الْأَقْوَامَ لِأَجْلِ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِجَاهِهِمْ لَا بِاتِّبَاعِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ تِجَارَةً لِلشُّيُوخِ الْمُقَلِّدِينَ الْجَامِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٢: ١٦) بَلْ كَانُوا فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ وَحُجَّةً عَلَى الدِّينِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ آنِفًا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٤٧: ٢٤) ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>