للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَنْعَامِ وَأَثْنَائِهَا، وَمِمَّا يُنَاسِبُ مَا هُنَا مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٦: ١٠٩، ١١٠) فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِمَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الْعَهْدُ: الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى إِنْشَائِهَا، وَبِمَعْنَى مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الْمُوصِي، وَعَهِدْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَصَّيْتُهُ بِفِعْلِهِ أَوْ حِفْظِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهُوَ الْمُعَاهَدَةُ كَمَا يَكُونُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْكَ

بِشَيْءٍ، وَمَنْ تَلْتَزِمُ لَهُ شَيْئًا، وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (٢: ٤٠) أَيْ: أَوْفُوا بِمَا عَهَدْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِمَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى عَهْدَ اللهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: عَهْدُ اللهِ تَارَةً يَكُونُ بِمَا رَكَّزَهُ فِي عُقُولِنَا، وَتَارَةً يَكُونُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَبِأَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَتَارَةً بِمَا نَلْتَزِمُهُ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَالنُّذُورِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا اهـ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الْعَهْدُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَهْدٌ مِنْهُ يُطَالِبُ النَّاسَ بِهِ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَأَصْلُهَا الْمَيْلُ عَنْ جَانِبِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، فَقَدْ فَطَرَ اللهُ أَنْفُسَ الْبَشَرِ عَلَى الشُّعُورِ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ فَوْقَ جَمِيعِ قُوَى الْعَالَمِ، وَعَلَى إِيثَارِ مَا تَرَاهُ حَسَنًا وَاجْتِنَابِ غَيْرِهِ، وَعَلَى حُبِّ الْكَمَالِ وَكَرَاهَةِ النَّقْصِ، وَلَكِنَّهُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى بَيَانِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَهْدُ اللهِ الْمُفَصَّلُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ لِمُسَاعَدَةِ الْفِطْرَةِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِزَالَةِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَمِنَ الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِعَهْدِ اللهِ الْعَامِّ، عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ بَيَانِ النَّشْأَةِ الْآدَمِيَّةِ وَالنَّشْأَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَافُرِ وَالتَّعَادِي، أَعْنِي تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الَّتِي نَادَى بِهَا بَنِي آدَمَ فِي الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ (٢٦ إِلَى ٣٥) وَمِنْهَا التَّحْذِيرُ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ مَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (٣٦: ٦٠) وَمِنْهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُهُ الْكُبْرَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ ١٥١ - ١٥٣ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا (٦: ١٥٢) .

وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الْعَهْدَ بِالْمِيثَاقِ الْفِطْرِيِّ الْعَامِّ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>