للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِفْكَ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ، وَمَا يُؤَدِّي الْمُرَادُ مِنَ الْكَذِبِ كَالْإِبْهَامِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّجَوُّزَاتِ وَالْكِنَايَاتِ وَالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُوهِمُ السَّامِعَ أَوِ الْقَارِئَ لَهَا مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَعَمَلِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ.

وَأَمَّا لَقْفُ الشَّيْءِ وَتَلَقُّفُهُ - بِالتَّشْدِيدِ - فَهُوَ تَنَاوُلُهُ بِحِذْقٍ وَسُرْعَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

كُرَةٌ حُذِفَتْ بِصَوَالِجَةَ ... فَتَلَقَّفَهَا رَجُلٌ رَجُلُ

قَالَ الرَّاغِبُ: لَقِفْتُ الشَّيْءَ أَلْقَفُهُ " أَيْ مِنْ بَابِ عَلِمَ " وَتَلَقَّفْتُهُ تَنَاوَلْتُهُ بِالْحِذْقِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ بِالْفَمِ أَوِ الْيَدِ قَالَ: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ اهـ. وَمِنْ مَجَازِهِ تَلَقُّفُ الْعِلْمِ أَيْ: تَلَقِّيهِ بِسُرْعَةٍ وَحِذْقٍ، وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَأْفِكُونَ إِمَّا مَوْصُولَةٌ وَإِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَخَرَّجُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ مِنْ كَوْنِ عَصَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْتَقَمَتْ حِبَالَ السَّحَرَةِ وَعِصِيَّهُمْ وَاسْتَرَطَتْهَا؛ أَيِ: ابْتَلَعَتْهَا فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْيَهُودِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ نَصِّ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيهِ، وَيُنَافِيهِ كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّهَا تَنَاوَلَتْ عَمَلَهُمْ هَذَا، فَأَتَتْ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ بُطْلَانِهِ وَحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ بِسُرْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ إِفْكُهُمْ عِبَارَةً عَنْ تَأْثِيرٍ أَحْدَثُوهُ فِي الْعَيْنِ، فَلَقْفُهَا إِيَّاهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَتِهِ وَإِبْطَالِهِ وَرُؤْيَةِ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ عَلَى حَقِيقَتِهَا - وَإِنْ كَانَ تَحْرِيكًا لَهَا بِمُحَرِّكَاتٍ خَفِيَّةٍ سَرِيعَةٍ، فَكَذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ بِجَعْلِهَا مُجَوَّفَةً مَحْشُوَّةً بِالزِّئْبَقِ وَتَحْرِيكِهِ إِيَّاهَا بِفِعْلِ الْحَرَارَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَارًا أُعِدَّتْ لَهَا أَوِ الشَّمْسَ حِينَ أَصَابَتْهَا، فَلَقْفُهَا لِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِعَمَلٍ مِنَ الْحَيَّةِ أَخَرَجَتْ بِهِ الزِّئْبَقَ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَانْكَشَفَتْ بِهِ الْحِيلَةُ، قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِ الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ مَا مَعْنَاهُ أَوْ مُحَصِّلُهُ عَلَى مَا نَتَذَكَّرُ أَنَّ إِبْطَالَهَا لِسِحْرِ السَّحَرَةِ أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى إِلْقَائِهَا أَنْ رَأَى النَّاسُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ عَلَى أَصْلِهَا، وَلَوِ ابْتَلَعَتْهَا لَبَقِيَ الْأَمْرُ مُلْتَبِسًا عَلَى النَّاسِ؛ إِذْ قُصَارَاهُ أَنَّ كُلًّا مِنَ السَّحَرَةِ وَمُوسَى قَدْ أَظْهَرَ أَمْرًا غَرِيبًا، وَلَكِنَّ أَحَدَ الْغَرِيبَيْنِ كَانَ أَقْوَى مِنَ الْآخَرِ فَأَخْفَاهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَلَا مَفْهُومٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ زَوَالُ غِشَاوَةِ السِّحْرِ وَتَخْيِيلِهِ حَتَّى رَأَى النَّاسُ أَنَّ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ الَّتِي أَلْقَاهَا

السَّحَرَةُ لَيْسَتْ إِلَّا حِبَالًا وَعِصِيًّا لَا تَسْعَى وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَأَنَّ عَصَا مُوسَى لَمْ تَزَلْ حَيَّةً تَسْعَى - هُوَ الَّذِي مَازَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعُرِفَتْ بِهِ الْآيَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالْحِيلَةُ الصِّنَاعِيَّةُ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّ عَصَا مُوسَى أَزَالَتْ هَذَا التَّخَيُّلَ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّقْفِ، وَلَكِنْ لَا نَعْلَمُ بِمَاذَا كَانَ لَهَا هَذَا التَّأْثِيرُ؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ إِلَهِيَّةٌ حَقِيقَةٌ لَا أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ حَتَّى نَعْرِفَ صِفَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهُ فِي ابْتِلَاعِ الْعَصَا لِلْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ إِذَا فُسِّرَتْ أَلْفَاظُهُ بِمَعَانِيهَا الْحَقِيقَةِ، فَالَّذِي بَطَلَ كَانَ عَمَلًا عَمِلُوهُ، وَكَيْدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>