إِلَخْ؛ لِيُوَافِقَ التَّوْرَاةَ، وَتَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ؟ كَمَا قَالَ لَهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (١١: ٤٩) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ؟
(قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُجَجٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَمِنْ غَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ الْكَاتِبِينَ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ كَمَا قَالَ مُصَدِّقًا لِكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - أَيْ: فِي الْأَصْلِ، قَدْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهَا، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ هُوَ - أَيِ: الْقُرْآنُ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، فَمَا أَقَرَّهُ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا صَحَّحَهُ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ الصَّحِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا فِيهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَكَوْنِ مُوسَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ، وَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ لَا هَارُونَ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ دَلَّتْ قَوَاعِدُهُ أَوْ نُصُوصُهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ أَنَّ الرَّبَّ جَعَلَ مُوسَى إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ أَخُوهُ هَارُونَ نَبِيَّهُ! ! فَأُصُولُ الْقُرْآنِ وَكَذَا التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فُقِدَتْ، وَأَنَّ عَزْرَا الْكَاتِبَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَبْدَلَ الْحُرُوفَ الْكِلْدَانِيَّةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ عَزْرَا قَدْ فُقِدَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ جَمِيعَ نُسَخِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ مُسْتَمَدَّةٌ مِمَّا كَتَبَهُ، وَفِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
مِنَ الْأَصْلِ، وَيُسَمُّونَهُ مُشْكِلَاتٍ يَتَكَلَّفُونَ الْأَجْوِبَةَ عَنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا نَمُوذَجًا مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الْأَخِيرُ مِنَ التَّوْرَاةِ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ يَشُوعَ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ يَشُوعَ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ وَيُؤَكِّدُهَا خَطَأُ الْمُفَسِّرِينَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِ، وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهَا، وَمِنْ سَائِرِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَالْعَادِيَاتِ الْمُتَسْخَرَجَةِ مِنْ آثَارِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ جُلُّ مَا يَعْرِفُونَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا سَمِعُوهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ، وَلَا بِصَادِقٍ أَمِينٍ. ثُمَّ مَا أَخَذُوهُ عَنْ كُتُبٍ تَارِيخِيَّةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِهَا، فَكَانَ أَكْثَرُ مَا كَتَبُوهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهَا مُشَوَّهًا لَهُ، وَحُجَّةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ عُلَمَائِنَا فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ يُقْرَأُ، وَلَا أَحَدَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ، قِيلَ: إِلَّا سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute