لَمْ تَمُرَّ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا، فَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ تَيَمَّنَتْ؛ أَيْ: رَجَتْ وُقُوعَ الْيَمِينِ وَالْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا طَارَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ تَشَاءَمَتْ، وَتَوَقَّعَتِ الشَّرَّ وَالْمُصِيبَةَ، وَيُسَمَّى الطَّائِرُ الْأَوَّلُ السَّانِحَ، وَالْآخَرُ الْبَارِحَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَمُّوا الشُّؤْمَ طَيْرًا وَطَائِرًا، وَالتَّشَاؤُمَ تَطَيُّرًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ خُرَافَتِهِمْ:
أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ابْتَدَأَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ
بِأَدَاةِ الِافْتِتَاحِ (أَلَا) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهَا تَوْجِيهُ ذِهْنِ الْقَارِئِ لِمَا يُلْقَى بَعْدَهَا حَتَّى لَا يَفُوتَهُ شَيْءٌ مِنْهُ، أَيْ: أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّؤْمَ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَى مُوسَى، وَعَدُّوهُ مِنْ آثَارِ وُجُودِهِ فِيهِمْ هُوَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَهُوَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ لِنِظَامِ الْكَوْنِ سُنَنًا تَكُونُ فِيهَا الْمُسَبِّبَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَسْبَابِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا حِكَمٌ، فَبِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ يَنْزِلُ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ امْتِحَانٌ وَاخْتِبَارٌ لَهُمْ بِمَا يَسُوؤُهُمْ لِيَثُوبُوا وَيَرْجِعُوا عَنْ ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَطُغْيَانِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حِكَمَ التَّصَرُّفِ الرَّبَّانِيِّ فِي الْخَلْقِ، وَلَا أَسْبَابَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ الصُّورِيَّةَ وَلَا الْمَعْنَوِيَّةَ، وَكَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْكَوْنِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ مَجِيءِ الْحَسَنَةِ بِـ " إِذَا " الدَّالَّةِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَعَرَّفَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّهَا الْأَصْلُ الثَّابِتُ بِغَلَبَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ، وَعَبَّرَ بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ بِـ " إِنَّ " الَّتِي هِيَ أَدَاةُ الشَّكِّ - أَيْ: إِنَّ شَرْطَهَا إِمَّا مَشْكُوكٌ فِي وُقُوعِهِ، وَإِمَّا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لِنُدْرَتِهِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ - وَذَكَرَ السَّيِّئَةَ؛ لِإِفَادَةِ أَنَّ وُقُوعَهَا قَلِيلٌ وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْغَالِبِ، وَأَفَادَ بِالتَّعْبِيرَيْنِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْحَسَنَةَ عَلَى عَظَمَتِهَا وَكَثْرَتِهَا مَا زَادَتْهُمْ إِلَّا غُرُورًا بِحَالِهِمْ، وَتَمَادِيًا فِي ظُلْمِهِمْ، وَإِصْرَارًا عَلَى بَغْيِهِمْ، وَأَنَّ السَّيِّئَةَ لَمْ تُفِدْهُمْ عِظَةً وَلَا عِبْرَةً، وَلَمْ تُحْدِثْ لَهُمْ تَوْبَةً، وَهَاكَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ:
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ قُلْنَا: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَتَرَبُّوا بِالْحَسَنَاتِ وَلَا بِالسَّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِمَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ تَعَالَى مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ، بَلْ أَصَرُّوا بَعْدَ إِيمَانِ كِبَارِ السَّحَرَةِ عَلَى عَدِّ آيَتَيْ مُوسَى مِنَ السِّحْرِ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute