كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ يَكُونُ فِي النَّفْسِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (٨: ١١) أَيْ: وَسْوَسَتَهُ لَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَطَشُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الرَّجَزُ فِي الشِّعْرِ سُمِّيَ بِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اضْطِرَابِ الصَّوْتِ فِي إِنْشَادِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ عَذَابُ قَوْمِ لُوطٍ رِجْزًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٢٩: ٣٤) وَفِي سُورَتَيْ سَبَأٍ وَالْجَاثِيَةِ إِنْذَارٌ لِلْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ، وَفُسِّرَ الرِّجْزُ هُنَا بِالْعَذَابِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطَّاعُونُ، وَكَأَنَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا " الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ - فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدِمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَلْفَاظٍ أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، مِنْهَا: " الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ " إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ " إِلَخْ، وَأَوَّلُهُ فِي بَعْضِهَا: " إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ " إِلَخْ، وَوَجْهُهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنَ الْأَوْبِئَةِ الَّتِي تَضْطَرِبُ لَهَا الْقُلُوبُ لِشِدَّةِ فَتْكِهَا، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٢: ٥٨، ٥٩) وَهُوَ
يَصْدُقُ بِطَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَزَلَ الطَّاعُونُ بِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِرَارًا، وَلَا يُوجَدُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَضَرْبَةُ الْقُرُوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْرَاةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الطَّاعُونَ، وَمَوْتُ الْأَبْكَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالطَّاعُونِ أَيْضًا.
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرِّجْزِ جِنْسُهُ، وَهُوَ كُلُّ عَذَابٍ تَضْطَرِبُ لَهُ الْقُلُوبُ أَوْ يَضْطَرِبُ لَهُ النَّاسُ فِي شُئُونِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ نِقْمَةٍ وَجَائِحَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَالْخَمْسِ الْمُبَيَّنَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى عِنْدَ نُزُولِ كُلٍّ مِنْهَا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، وَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنَّا هَذِهِ، وَيَعِدُهُ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيَعْبُدُوا رَبَّهُمْ، وَيَذْبَحُوا لَهُ ثُمَّ يَنْكُثُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالرِّجْزِ أَفْرَادَهُ وَافَقَ التَّوْرَاةَ فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ مُوسَى عِنْدَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ بِكَشْفِهَا عَنْهُمْ، وَلَفْظُ " لَمَّا " لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ جُمْلَتَهُ، وَمَجْمُوعُ أَفْرَادِهِ أَوْ فَرْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، فَالْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ كَشْفِهِ قَدْ وَقَعَ مَرَّةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute