ثُمَّ انْتَقَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ جَعْلُ الْإِلَهِ لَهُمْ، وَهُوَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَطْلُوبِ لِأَجْلِهِ هَذَا الْجَعْلُ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - وَمُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَالَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ وَذَيْنِكَ الْبَاطِلَيْنِ غَايَةُ الْمُبَايَنَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا جَوَابًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِمَا قَبِلَهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ عَطْفًا، وَلَا أَنْ يَعُدَّ مَعَهُ عَدًّا، وَلِهَذَا أَعَادَ فِيهِ كَلِمَةَ (قَالَ) كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْأَهَمِّ الْأَفْضَلِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ، فَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ فَغَيْرُ اللهِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ، فَهُوَ يَشْمَلُ أَخَسَّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْجَزَهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْأَصْنَامِ، وَيَشْمَلُ أَفْضَلَهَا وَأَكْمَلَهَا كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِيُثْبِتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَخْلُوقٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ عَلَا قَدْرُهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَأَنَّ تَجْهِيلَهُمْ بِمَا طَلَبُوا لَا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَالْأَصْنَامِ خَسِيسٌ وَبَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعُرْضَةٌ لِلتَّبَارِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِغَيْرِهِ - لَا لِهَذَا فَقَطْ - بَلْ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، مَهْمَا يَكُنْ غَيْرُهُ مُكَرَّمًا عِنْدَهُ، وَمُفَضَّلًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ عِبَادَةِ الْأَخَسِّ دَلِيلٌ عَلَى مُنْتَهَى الْخِسَّةِ وَالْجَهْلِ، إِذْ لَا شُبْهَةَ تُوهِمُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِثَابَةِ أَوِ التَّقْرِيبِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَشُبْهَةِ مَنْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَبَعْضَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ مَنْ قَصُرَ بِهِ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، مَعَ إِصْرَارِهِ عَلَى خُبْثِهِ وَرِجْسِهِ، جَاهِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَالْفَاسِقِينَ أَنْ يَتُوبُوا؛ أَيْ: يَرْجِعُوا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَأَنْ يَدْعُوهُ وَحْدَهُ كَدُعَائِهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَنْ يَخُصُّوهُ مِثْلَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا فِي صَلَاتِنَا بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (١: ٥) .
وَبَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ اللهِ إِلَهًا ذَكَرَ مَنْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الْوَاسِطَةَ فِي هَذَا الْجَعْلِ، الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْجَهْلُ، وَهُوَ نَفْسُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: أَبْغِيكُمْ إِلَهًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ طَلَبَ هَذَا الْأَمْرِ الْإِمْرِ
وَالشَّيْءِ الْإِدِّ، وَالْمُنْكَرِ الْفَظِيعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلٌ بِقِيمَتِهِ، وَبِمَعْنَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا رَأَوْهُ مِنْ جِهَادِهِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ لَهُ فِي شَخْصِ أَخِيهِ وَلَا فِي شَخْصِهِ، بَلْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ إِنْكَارِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: طَلَبُ إِلَهٍ مَعَ اللهِ، وَكَوْنُهُ بِجَعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَقَالَ: أَغَيْرَ اللهِ تَبْغُونَ إِلَهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ (١٣: ٨٣) .
ثُمَّ أَيَّدَ هَذَا الْإِنْكَارَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَهُوَ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَرْقَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْحَضَارَةِ وَسَعَةِ الْمُلْكِ، وَمِنَ السِّيَادَةِ عَلَى بَعْضِ الشُّعُوبِ، وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمْ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْهُمْ، وَتَجْدِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِمْ، وَإِيتَائِهِمَا مِنَ الْآيَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute