للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْأَرْضَ مَوْجُودَتَانِ وَالنِّظَامَ فِيهِمَا مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِقَامَةُ النِّظَامِ وَصَلَاحُ التَّدْبِيرِ الصَّادِرِ عَنْ عُلُومٍ وَإِرَادَاتِ قَدَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَارِضَةٍ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَوْنِ نَفْسُهُ عَنْهَا بِالْأَوْلَى.

وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ الْأَخِيرَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " فِي أَوَّلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مَعَهُ مِنْ قَبِيلِ سَرْدِ الصِّفَاتِ أَوِ الْأَعْدَادِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْفَصْلُ أَيْ: كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ (٩: ١١٢) إِلَخْ. وَقَوْلُهُمْ: الْأَوَّلُ كَذَا - الثَّانِي كَذَا إِلَخْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِعَادَةُ " قَالَ " لِامْتِنَاعِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ كِلَيْهِمَا بِدُونِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ " قَالَ " مَفْصُولَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِقْلَالِ فِي الْجَوَابِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَطْفِ الْقَوْلِ وَعَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُونِهِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا

حَقَّقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.

وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي أَسَالِيبِ هَذِهِ اللُّغَةِ يَشْعُرُ بِأَنَّ الْبَدْءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ هُنَا بِدُونِ " قَالَ " غَيْرُ مُسْتَعْذَبٍ وَلَا مُسْتَسَاغٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ هَذَا وَنُكْتَتَهُ - بَحَثَ طُلَّابُ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ نُكْتَةِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ فَلَمَحَ بَعْضُهُمْ مَا قَرَّرْنَاهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْهُ وَاضِحًا لِيُبَيِّنَهُ. قَالَ الْآلُوسِيُّ: قِيلَ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ؛ وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ أُعِيدَ لَفْظُ (قَالَ) اهـ. فَنَقَلَ هَذِهِ النُّكْتَةَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ " قِيلَ " إِذْ كَانَتْ أَخْفَى عِنْدَهُ مِنْهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا الَّذِي قَالَ: وَلَعَلَّهُ. . . فَلَمْ يَجْزِمْ - ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ: هُوَ شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ - تَعَالَى - الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَا طَلَبُوا عِبَادَتَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ أَصْلًا، لِكَوْنِهِ هَالِكًا بَاطِلًا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا " قَالَ " مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اهـ. ثُمَّ نَقَلَ تَعْلِيلًا آخَرَ لِلشِّهَابِ وَهُوَ: أُعِيدَ لَفْظُ " قَالَ " مَعَ اتِّحَادِ مَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ (؟) لِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالتَّمَانُعِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ عَوَامُّ. انْتَهَى.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْمُعْتَرِضَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى لَمْحِ مَا لَمَحَ صَاحِبُهَا، إِذْ لَوْ سَلَّمَ لِلْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ إِلَخْ. وَلِلثَّانِي أَنَّهَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ لَا بُرْهَانِيٌّ، لَمَّا كَانَ هَذَا وَلَا ذَاكَ مُقْتَضِيًا لِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَوْقِعِهِ، وَامْتِنَاعِ كُلٍّ مِنْ فَصْلِهِ بِدُونِ الْقَوْلِ، وَوَصْلِهِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِمُلْهَمِ الصَّوَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ قَوْلِ الشَّبَابِ آنِفًا، وَضَعْفِ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>