للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى فِيمَا يُفَوِّضُونَ كُنْهَهُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَا تُحِيطُ بِهِ، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (٤٢: ١١) وَهُوَ مِمَّا يَعْقِلُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَ ضِدَّهُ؟ كَلَّا إِنْ تَعَصَّبَ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ مُتَأَوِّلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ افْتَاتُوا عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ مِمَّا نَفُوهُ مِنْ لَوَازِمِ مَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَضْحَكُ إِلَخْ. مَعَ اسْتِصْحَابِ نَصِّ التَّنْزِيهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ فِي التَّحَكُّمِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يُكَلِّفِ اللهُ - تَعَالَى - أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةَ الْكَلَامِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رُسُلُهُ - صَلَوَاتِ اللهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ - وَأَصْلُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ إِلَى خَلْقِهِ هُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ - تَعَالَى - وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَّعَهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَرِّعَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ بِدُونِ إِذْنِهِ. فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ شَرَّعَ

الدِّينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْفَلْسَفَةُ الْكَلَامِيَّةُ مِنْ دَقَائِقِ النَّظَرِيَّاتِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالْغَوْصِ عَلَيْهَا أَفْرَادٌ مَعْدُودُونَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْأُمَمِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَاخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَيِّنَةِ، فَعَصَوُا اللهَ - تَعَالَى - فِي نَهْيِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُلِّفُوهَا، وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَكَمْ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا؟ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا يَقُولُونَ فَكَمْ عَدَدُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمْ؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ لَدَى كُلِّ مَنِ احْتَكَرَ الْحَقَّ فِيهَا لِنَفْسِهِ إِلَى تَلْقِينِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَرَاهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ سِوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ غَيْرَهُ، فَفِهْمُ الدِّينِ مُتَعَذَّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَّةِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ فَكَانَ سَهْلًا وَيَسِيرًا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ هَذَا الدِّينَ وَهَذِهِ الْمِلَّةَ، كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يَصِفُونَ اللهَ - تَعَالَى - بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللهُ - تَعَالَى -، وَلَا أَنْزَلَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَنْكَرَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ عِلْمَ الْكَلَامِ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً سَيِّئَةً، وَمَنْ خَاضَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ؛ فَلِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبِدَعِ وَإِزَالَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُشْكِلَةِ فِي الدِّينِ لَا لِذَاتِهِ، وَأَرَادُوا بِهِ إِزَالَةَ الْخِلَافِ فَزَادَهُمْ خِلَافًا وَافْتِرَاقًا، حَتَّى صَارَ أَكْثَرُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَيَحْصُرُهَا كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَذْهَبِهِ، وَلَا سَلَامَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِالرُّجُوعِ فِي الدِّينِ الْمَحْضِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَى مَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>