للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِقَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَرْبِ الشُّرَاةِ: " لَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ وَلَوْ تَلِفَتْ سَاقِي " قَالُوا: أَيْ نَفْسِي. وَعَلَيْهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَشْفُ السَّاقِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبَارَةً عَنْ كَشْفِ

الْحِجَابِ، وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ (٦٨: ٤٢) قَالَ: عَنِ الْغِطَاءِ فَيَقَعُ مَنْ كَانَ آمَنَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَيَسْجُدُونَ لَهُ، وَيُدْعَى الْآخَرُونَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا يُبْصِرُونَهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَجَدِّهِ، هِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَكْشِفَ اللهُ الْأَمْرَ وَتَبْدُوَ الْأَعْمَالُ، وَقَالَ: هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْمُفْظِعُ مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ الْقِتَالُ فِيهِمْ وَالْحَرْبُ وَعَظُمَ الْأَمْرُ فِيهِمْ قَالُوا لِشِدَّةِ ذَلِكَ: قَدْ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، فَذَكَرَ اللهُ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَهَذَا مِنَ التَّفْسِيرِ الْجَلِيِّ، لَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْخَفِيِّ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ أَيْ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ إِلَّا إِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الْبَيْضَاوِيُّ أَصْلًا آخَرَ لِكَشْفِ السَّاقِ تَتَّجِهُ بِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى كَشْفِ الْحِجَابِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَتِهِ فِي الْمَعْنَى الْآخَرِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لِحُسْنِ بَيَانِهِ لَهُ وَهُمَا قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: يَوْمَ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ وَيَعْظُمُ الْخَطْبُ. وَكَشْفُ السَّاقِ مَثَلٌ فِي ذَلِكَ وَأَصْلُهُ تَشْمِيرُ الْمُخَدَّرَاتِ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ قَالَ حَاتِمٌ:

أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا

أَوْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ أَصْلِ الْأَمْرِ وَحَقِيقَتِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ عِيَانًا، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَاقِ الشَّجَرِ وَسَاقِ الْإِنْسَانِ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّهْوِيلِ أَوِ التَّعْظِيمِ اهـ.

وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثَيْنِ الَّتِي اضْطَرَبَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْكَارِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي بَعْضِهَا، وَمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضٍ فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ النُّجْعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَارَبَ، قَالَ بَعْضُ الْمُؤَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ تَعَالَى رُؤْيَتُهُ - أَقُولُ: وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ كَالرُّؤْيَةِ فِي إِيهَامِ التَّشْبِيهِ، فَلَمْ يَخُصَّ دُونَهَا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْتِي مَلَكٌ بِأَمْرِهِ لِامْتِحَانِهِمْ، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ الْجَمْعُ بَيْنَ إِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ الْمَلَكِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (٦: ١٥٨) وَقَوْلِهِ: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٨٩: ٢٢) عَلَى وَجْهٍ، فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ

الْحَدِيثِ لِلْهَرَبِ مِنْ إِسْنَادِ الْإِتْيَانِ إِلَى الرَّبِّ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ مَعَ هَذَا - فَالْأَوْلَى قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ: إِنَّهُ إِتْيَانٌ يَلِيقُ بِهِ، لَا كَإِتْيَانِ الْخَلْقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>