للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَنْ تَرَانِي. . . الْآيَةَ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَدِلُّونَ

عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ بِسُؤَالِ الْكَلِيمِ إِيَّاهَا، وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهِ هَذَا السُّؤَالَ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُؤَالَهُ نَجَاةَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ - وَبِتَعْلِيقِ الرُّؤْيَةِ عَلَى جَائِزٍ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَسْتَدِلُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِعَدَمِ إِجَابَةِ الْكَلِيمِ إِلَيْهَا، وَتَعْلِيقِهَا عَلَى مَا عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا كُلُّ فَرِيقٍ لَيْسَتْ نَصًّا قَاطِعًا فِي مَذْهَبِهِ، فَفِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مَا هُوَ نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فِي الرُّؤْيَةِ، وَتَشْبِيهِهَا بِرُؤْيَةِ الْبَدْرِ وَالشَّمْسِ فِي الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، وَكَوْنِهَا لَا مُضَارَّةَ فِيهَا وَلَا تَضَامَّ وَلَا ازْدِحَامَ، وَفِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ، وَجَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَكَانَ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ إِشَارَتِهِ إِلَى ذَلِكَ: وَأَكْثَرُهَا جِيَادٌ، وَزَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ، وَحَمْلَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا، فَكَانَ بَعْضُ مَا قَالُوهُ تَأْوِيلًا أَبْعَدَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُنْكِرِينَ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْسِيرِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْبُخَارِيِّ مَا نَصَّهُ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْصُلُ لِلرَّائِي الْعِلْمُ بِاللهِ - تَعَالَى - بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهُوَ عَلَى وِفْقِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: " كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ " إِلَّا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْإِنْسَانِ نِسْبَتُهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ؛ نِسْبَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ نَوْعُ كَشْفٍ وَعِلْمٍ إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَوْضَحُ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ اهـ.

ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَعَقَّبَ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْوِيضِ وَعَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَوْضَحَهُ فِي كِتَابِ " الْمَحَبَّةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ " بِمَا يُعْهَدُ مَنْ قَرَأَ الْإِحْيَاءَ مِنْ بَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ.

هَذَا وَإِنَّ إِحْصَاءَ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَسَرْدَ كَلَامِ الْمُثْبِتِينَ وَالنُّفَاةِ وَبَيَانَ الرَّاجِحِ مِنْهُ وَالْمَرْجُوحِ يَسْتَغْرِقُ عِدَّةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الْمَنَارِ، وَلَنْ يَرْضَى ذَلِكَ مِنَّا أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ عِشْرِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>