للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ يَقُولُ النُّفَاةُ أَيْضًا: لَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي الْآخِرَةِ عَقِيدَةً يُطَالِبُ الْمُسْمِلُونَ بِالْإِيمَانِ بِهَا لَمَا جَهِلَتْهَا عَائِشَةُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَةِ إِثْبَاتِ الْمُثْبِتِينَ لَهَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ، وَإِنَّمَا قُصَارَاهُ أَنْ يُعَدَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَانًا لِبَعْضِ الْخَوَاصِّ إِذْ لَا يَضُرُّ الْعَامَّةَ جَهْلُهَا، فَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً يُدْعَى إِلَيْهَا مَعَ التَّوْحِيدِ.

وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنِ اسْتِنْبَاطِ عَائِشَةَ وَأَقْوَاهُ عِنْدَ الْمُثْبِتِينَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُرِيدُ بِهِ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَلَا تُقَاسُ شُئُونُ الْبَشَرِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى شُئُونِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ الْعَالَمِ سُنَنًا وَنَوَامِيسَ تُخَالِفُ سُنَنَ هَذَا الْعَالَمِ وَنَوَامِيسِهِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَمَاءُ الْجَنَّةِ غَيْرُ آسِنٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَا يُخَالِطُهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فِي مَقَرِّهِ أَوْ جَوِّهِ، وَخَمْرُهَا لَيْسَ فِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعَقْلَ، وَلَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، وَلَبَنُهَا لَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ، وَلَا تُخَالِطُهُ جِنَّةٌ (مَيْكْرُوبَاتٌ) أَمْرَاضٌ، وَكَذَلِكَ فَاكِهَتُهَا وَثَمَرَاتُهَا هِيَ عَلَى كَوْنِهَا أَعْلَى وَأَشْهَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا لَا تَفْسَدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءَ، وَكَذَلِكَ أَمْزِجَةُ أَهْلِهَا هِيَ أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ أَمْزِجَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ

وَيَشْرَبُونَ فَيَكُونُ هَضْمُهُمْ بِالتَّبَخُّرِ وَرَشْحِ الْعَرَقِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ لَهَا رِيحُ الْمِسْكِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْعَصْرِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمِرِّيخِ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ كَالْبَشَرِ يَجْزِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا أَكْبَرَ مِنَّا أَجْسَامًا وَأَسْرَعَ مِنَ الْخَيْلِ الْعَادِيَّةِ فِي حَرَكَتِهِمُ الْعَادِيَّةِ، هَذَا، وَعَالَمُ الْمِرِّيخِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعَالِيَةِ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْعَصْرِ فِي شَأْنِهِ يُقَرِّبُ تَصَوُّرَ مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَذْهَانِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ أَخْبَارَ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَمَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْلُوفَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِمَا اكْتَشَفَ مِنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَخَوَاصِّ الْكَهْرُبَاءِ وَالرَّادْيُومِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مَشْهُودًا مَقْطُوعًا بِهِ لَمَا صَدَّقُوهُ. قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ حَقَّ الْقِيَامِ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٢: ١٧) وَوَضَّحَ ذَلِكَ رَسُولُهُ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " وَرَوَى أَهْلُ الْكِتَابِ مِثْلَ هَذَا عَنْ سَيِّدِنَا عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَعْلَى وَأَسْمَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا حَتَّى الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِ النَّاسِ وَغَرَائِزِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِالِاسْمِ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِهِ لِضَرُورَةِ تَقْرِيبِ تِلْكَ الْمَعَانِي الْغَيْبِيَّةِ مِنَ الْفَهْمِ، فَهَلْ يَصِحُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى أَعْلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ الشُئُونِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَنُشَبِّهَهُ بِشُئُونِ الدُّنْيَا؟ فَنَجْعَلَ تَجَلِّيَ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِأُولَئِكَ الْعِبَادِ الْمُكْرَمِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>