(خُلَاصَةٌ وَتَتِمَّةٌ تَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ وُضُوحًا، وَمَذْهَبَ السَّلَفِ ثُبُوتًا)
(١) الرُّؤْيَةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْقَطْعِيَّةِ:
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ نَصٌّ أُصُولِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ يَجْعَلُهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُدْعَى إِلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَنْ يَجْهَلُهَا أَوْ يُنْكِرُهَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ غَرِيبِ الْعِلْمِ إِلَّا عَلَى الَّذِي يَسْتَنْبِطُهُ مِنَ الْقُرْآنِ كِبَارُ الْعَارِفِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً لِمَنْ دُونَهُمْ - وَكَذَلِكَ كَانَ - حَتَّى إِنَّ كِبَارَ النُّظَّارِ وَعُلَمَاءَ الْبَيَانِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْوَارِدَةِ فِيهَا: فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَالْقِيَامَةِ. فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مُثْبِتَةً وَبَعْضُهُمْ نَافِيَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي دِينِ الرَّحْمَةِ وَالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِيمَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ لُغَةً، وَأَنَّهُمْ يُعْذَرُونَ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ فِي غَيْرِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنْ وَاقِعَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَحْرِيمُ مَا تَغْلِبُ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَيُرَجَّحُ الضَّرَرُ فِيهِ عَلَى النَّفْعِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَةُ بِهَذَا التَّرْجِيحِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (٢: ٢١٩) وَهُوَ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ خَوَاصِّ الصَّحَابَةِ فَتَرَكُوهُمَا، وَلَمْ يُكَلِّفْ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ تَرْكَهُمَا إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؛ إِذْ نَطَقَتْ بِأَنَّهُمَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَصَرَّحَتْ بِالْأَمْرِ بِاجْتِنَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّرْكِ.
وَمَا مِنْ مَسْأَلَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ بِنَصٍّ غَيْرِ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ حُكَمَاءُ الْعُلَمَاءِ حِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِأَنَّ شِدَّةَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا كَانَتْ تَقْتَضِي أَنْ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ تَرْكَهُمَا دُفْعَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضِعَافِ الْإِيمَانِ تَرْكُهُمَا، وَيَتَعَسَّرُ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْفِرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ الرَّبِّ وَرَحْمَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يُحَرِّمَهُمَا بِالتَّدْرِيجِ وَلَا سِيَّمَا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ آيَةً تَقْتَضِي تَرْكَ الْخَمْرِ فِي عَامَّةِ النَّهَارِ وَنَاشِئَةِ اللَّيْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى (٤: ٤٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا الْبَلِيغَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ - وَآيَةً يَفْهَمُ مِنْهَا دَقِيقُ الْعِلْمِ قَوِيُّ الْإِيمَانِ التَّحْرِيمَ فَيَتْرُكُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهِيَ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ بِالِاجْتِنَابِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ.
لَوْلَا غَفْلَةُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ طَعَنَ بَعْضُهُمْ فِي عِلْمِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَفِي
دِينِهِ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَتِلْكَ الْقَاعِدَةِ، لَعَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمُ الْآخَرَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا عَصَبِيَّةً مَذْهَبِيَّةً، وَلَعَلِمَ الْمُثْبِتُونَ لَهَا مِنْهُمْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَوْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَةً عَامَّةً وَرُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ لَبَيَّنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute