للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُوسَى لَهُ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ (٢٠: ٩٧) أَيْ: لَا أَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّنِي أَحَدٌ.

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي أَزْمِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ إِذَا فُضِحُوا بِظُهُورِ افْتِرَائِهِمْ كَمَا فُضِحَ هَؤُلَاءِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ خَاصًّا بِافْتِرَاءِ الْبِدَعِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، وَهَكَذَا رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ " وَكَذَلِكَ تَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " وَقَالَ: هِيَ وَاللهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ. إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ افْتِرَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى مَا قَيَّدْنَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - كَفَلَ لَهُمُ النَّصْرَ، أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَّةُ، وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي دَارِ الْكُفْرِ أَوْ دَارِ الظُّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَهِيَ كَظُلَّةٍ مِنَ الدُّخَانِ، أَوْ قَزَعَةٍ مِنَ السَّحَابِ تَحْدُثُ فِي حِنْدِسِ لَيْلَةٍ مُطْبِقَةِ السَّحَابِ، حَالِكَةِ الْإِهَابِ، لَا تَكَادُ تَظْهَرُ، فَيَكُونُ لِأَصْحَابِهَا احْتِقَارٌ يُذْكَرُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ فِي الْقِصَّةِ خَاطَبَ اللهُ بِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ؛ لِإِنْذَارِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ مَا سَيَكُونُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ وَعَدَاوَتِهِمْ لِرَسُولِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ، وَوَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْعِجْلِ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ وَكَوْنِهِمْ خَلَفًا لَهُمْ فِي افْتِرَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى اللهِ فِي عَهْدِ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. كَمَا عَيَّرَهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِقَتْلِ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَرَائِمِ سَلَفِهِمْ، وَرُوِيَ هَذَا الْوَجْهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: الْمُرَادُ سَيَنَالُ أَوْلَادُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُرِيدَ بِالْغَضَبِ وَالذِّلَّةِ مَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، أَوْ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ اهـ. وَتَوْجِيهُنَا أَظْهَرُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالذِّلَّةِ وَحْدَهَا، وَيُرَادُ: سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ فِي الْآخِرَةِ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ (٢: ٦١) اهـ، وَأَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَعَذَابُ الْآخِرَةِ مُقَدَّرٌ فِي الْكَلَامِ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الدُّنْيَا، عَلَى مَا عُلِمَ مِنِ اطِّرَادِهِ بِنُصُوصٍ أُخْرَى.

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حُكْمِ مَنْ تَابَ وَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَبَقَهَا هُوَ حُكْمُ

مَنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ثُمَّ تَابُوا وَرَجَعُوا مِنْ بَعْدِهَا إِلَى اللهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>