مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَالْإِرْشَادُ إِلَى التَّفَكُّرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى فِقْهِ الْأُمُورِ، وَمَا فِي حَقَائِقِهَا مِنَ الْعِبْرَةِ، وَإِلَى النَّظَرِ الْهَادِي إِلَى مَأْخَذِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، لِمَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِقُرْبِ الْأَجَلِ، وَالِاحْتِيَاطِ لِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَتَمَهَا بِبَيَانِ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي هِدَايَةِ مَنْ قَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بِضَلَالِهِ، وَتَرْكِهِ يَعْمَهُ فِي طُغْيَانِهِ. قَالَ تَعَالَى:
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَكِلْتَاهُمَا تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي إِلَخْ بَدَأَهُ بِبَيَانِ حَالِ مَنْ أَضَلَّهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَهْمَلُوا
اسْتِعْمَالَ قُلُوبِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ فِي فِقْهِ آيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّهُ مَا سَمَّاهُمْ أُمَّةً ; لِأَنَّهُمْ لَا تَجْمَعُهُمْ فِي الضَّلَالِ جَامِعَةٌ، وَلِأَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرٌ وَسُبُلَهُ مُتَفَرِّقَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا حَالَ مَنْ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ، أَيْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ، يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ دُونَ غَيْرِهِ يَعْدِلُونَ، فَسُبُلُهُمْ وَاحِدَةٌ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، هَؤُلَاءِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) فَلْيُرَاجَعْ فَهُوَ قَرِيبٌ، فَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ لِقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمَّةِ مُوسَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَقُرْبِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا إِلَخْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ فِي مُقَابَلَةِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أَيْ: خَلَقْنَا فَهُنَالِكَ يَقُولُ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا، وَهُنَا يَقُولُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أَيْ: لِلْجَنَّةِ أُمَّةٌ صِفَتُهُمْ كَذَا وَكَذَا.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَذِهِ أُمَّتِي، بِالْحَقِّ يَحْكُمُونَ وَيَقْضُونَ، وَيَأْخُذُونَ وَيُعْطُونَ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِيهَا قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إِذَا قَرَأَهَا: " هَذِهِ لَكَمَ وَقَدْ أَعْطَى الْقَوْمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا " وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: لَتَفْتَرِقَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً، يَقُولُ اللهُ: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اهـ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشِّقَّ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ مَرْفُوعٌ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute