للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَشْأَتِهِ، وَفِي حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، وَدَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَآيَاتِ وَحْدَانِيَّةِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَمَا بَدَأَهُمْ وَحِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ - فَإِنَّ حَذْفَ مَعْمُولِ التَّفَكُّرِ يُؤْذِنُ بِعُمُومِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.

أَلَا فَلْيَتَفَكَّرُوا ; فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَفَكُّرٍ وَتَأَمُّلٍ إِنَّهُمْ إِنْ تَفَكَّرُوا أَوْشَكَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَّ، وَمَا الْحَقُّ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَهِيَ نَافِيَةٌ لِمَا رَمَوْهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَقَوْلِهِ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَمِثْلِهَا آيَةُ سَبَأٍ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ; وَلِذَلِكَ خُتِمَتَا بِنَفْيِ كُلِّ صِفَةٍ عَنْهُ فِي مَوْضُوعِ رِسَالَتِهِ إِلَّا كَوْنَهُ مُنْذِرًا مُبَلِّغًا عَنْ رَبِّهِ، فَقَالَ هُنَا: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ الْإِنْذَارُ تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ مُقْتَرِنٌ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، أَيْ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، لَيْسَ إِلَّا مُنْذِرًا نَاصِحًا، وَمُبَلِّغًا عَنِ اللهِ مُبَيِّنًا، يُنْذِرُكُمْ مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا لَمْ تَسْتَجِيبُوا لَهُ، وَقَدْ دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ كَلِمَتِكُمْ، وَإِصْلَاحِ أَفْرَادِكُمْ وَمُجْتَمَعِكُمْ، وَالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ. وَقَالَ هُنَالِكَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

(٣٤: ٤٦) .

وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفِي آيَةِ التَّكْوِيرِ بِالصَّاحِبِ لَهُمْ ; لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَفَكَّرُوا حَقَّ التَّفَكُّرِ فِي سِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْقُولَةِ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ الشُّذُوذَ وَمُجَافَاةَ الْمَعْقُولِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ، وَلَا مِمَّا عُهِدَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ كَمَا قَالَ بَعْضُ زُعَمَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الزُّعَمَاءِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦: ٣٣) .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا شُبْهَةَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرُّسُلِ بِكَوْنِهِمْ بَشَرًا مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا كَذَلِكَ شُبْهَاتُهُمْ عَلَى الْبَعْثِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا.

وَلَوْ تَفَكَّرَ مُشْرِكُو مَكَّةَ فِي نَشْأَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، وَمَا جَرَّبُوا مِنْ أَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ مِنْ صَبْوَتِهِ إِلَى أَنِ اكْتَهَلَ، ثُمَّ تَفَكَّرُوا فِيمَا قَامَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَمِنْ كَوْنِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ تَقْتَضِي تَنَزُّهَهُ عَنِ الْعَبَثِ (وَمِنْهُ) أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْإِنْسَانُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَاقِلُ الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ مِنْ مَاضٍ وَحَاضِرٍ وَآتٍ، وَيَنْتَهِي وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ ثُمَّ لَوْ تَفَكَّرُوا فِي سُوءِ حَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ (كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ) وَالْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>