وَقَدْ وَرَدَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ حَصْرِ وَظِيفَةِ الرَّسُولِ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ بِلَفْظَيْهِمَا مَعًا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَبِلَفْظِ التَّبْلِيغِ الْجَامِعِ لَهُمَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ كَمَا هُنَا وَبَعْضُهَا بِإِنَّمَا، وَالْحَصْرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْوَى النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ وَالتَّوْكِيدِ كُلِّهِ يَأْبَى غُلَاةُ الْإِطْرَاءِ لِلرُّسُلِ وَلِمَنْ دُونَ الرُّسُلِ مِنَ الصَّالِحِينَ حَقِيقَةً أَوْ تَوَّهُّمًا إِلَّا أَنْ يُشْرِكُوهُمْ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤: ٢٨) وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْإِسْرَاءِ وَالْفَرْقَانِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقَالَ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٦: ٣٥) وَفِي سُورَةِ يس حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٦: ١٧) وَفِي سُورَتَيِ النُّورِ وَالْعَنْكَبُوتِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَصْرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا إِضَافِيٌّ ; فَإِنَّ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ بَيَانَ الْوَحْيِ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ (٤: ١٠٥) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) وَالْبَيَانُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ كَالْأَقْوَالِ، بَلِ الْأَفْعَالُ أَقْوَى دَلَالَةً وَأَعْصَى عَلَى تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ. وَكَمَا قَدْ
أَمَرَ تَعَالَى بِتَحْكِيمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُضُوعِ لِحُكْمِهِ، أَمَرَ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي هَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (٣٣: ٢١) .
قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْحَصْرَ الْحَقِيقِيَّ ; لِأَنَّ التَّبْلِيغَ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ بِهِ وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْوَحْيِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَبِيدُ اللهِ تَعَالَى مُكَرَّمُونَ، لَا يُشَارِكُونَهُ فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَلَا فِي تَدْبِيرِهِ، وَهُمْ بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ لَا يَمْتَازُونَ عَلَى الْبَشَرِ فِي خَلْقِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُونَ بِاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِوَحْيهِ، وَاصْطِفَائِهِمْ لِتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ لِعِبَادِهِ، وَبِمَا زَكَّاهُمْ وَعَصَمَهُمْ فَأَهَّلَهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا أُسْوَةً حَسَنَةً وَقُدْوَةً صَالِحَةً لِلنَّاسِ فِي الْعَمَلِ بِمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute