للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَشْعُرُ بِهِ. وَقَدْ تَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ حَيْضَتِهَا فَمَرَّتْ بِهِ أَيْ فَمَضَتْ بِهِ إِلَى وَقْتِ مِيلَادِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْدَاجٍ وَلَا إِزْلَاقٍ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوِ اسْتَمَرَّتْ فِي أَعْمَالِهَا وَقَضَاءِ حَاجَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا اسْتِثْقَالٍ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ حَانَ وَقْتُ ثِقَلِ حَمْلِهَا وَقَرُبَ وَضْعُهَا دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ: تَوَجَّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى رَبِّهُمَا يَدْعُوَانِهِ فِيمَا انْحَصَرَ هَمُّهُمَا فِيهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَمْلِ عَلَى سَلَامَةٍ بِأَنْ يُعْطِيَهُمَا وَلَدًا صَالِحًا، أَيْ سَوِيًّا تَامَّ الْخَلْقِ يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ النَّافِعَةِ - وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ غَيْرَ

رَبِّهِ، فِيمَا لَا يَمْلِكُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَسْبَابَهُ، دَعَوَاهُ مُخْلِصَيْنِ مُقْسِمَيْنِ لَهُ عَلَى مَا وَطَّنَا عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمَا مِنَ الشُّكْرِ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، قَائِلَيْنِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا لَنَكُونُنَّ مِنَ الْقَائِمِينَ لَكَ بِحَقِّ الشُّكْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا وَإِخْلَاصًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمُعَرَّفُ.

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أَيْ: فَلَمَّا أَعْطَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا لَا نَقْصَ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فَسَادَ فِي تَرْكِيبِهِ، جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِي إِعْطَائِهِ أَوْ فِيمَا أَعْطَاهُ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشِّرْكِ مِنْهُمَا، أَوْ ظُهُورِ مَا هُوَ رَاسِخٌ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَسَنُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (جَعَلَا لَهُ شِرْكًا) أَيْ شَرِكَةً أَوْ ذَوِي شِرْكٍ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: تَعَالَى شَأْنُهُ عَنْ شِرْكِهِمْ ; فَإِنَّهُ هُوَ مُعْطِي النَّسْلِ بِمَا خَلَقَهُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْضَاءٍ، وَقَدَّرَ لَهُمَا فِي الْعُلُوقِ وَالْوَضْعِ مِنْ أَسْبَابٍ، لَا فِعْلَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ هُنَا بَعْدَ تَثْنِيَتِهِ الْأَفْعَالَ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالزَّوْجَيْنِ الْجِنْسُ لَا فَرْدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي (آتَيْتَنَا) وَ (لَنَكُونَنَّ) لَهُمَا وَلِكُلِّ مَنْ يَتَنَاسَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. وَالْآيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ لِحَالِ الْبَشَرِ فِيمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَزَغَاتِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَمْثَالِهِ، وَالْجِنْسُ يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَبِبَعْضِ أَفْرَادِهِ.

فَمِثَالُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ فِي إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِالنَّسْلِ، مَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الْأَسْبَابِ فِي سَلَامَةِ الْحَامِلِ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَمْلِ أَوْ فِي حَالَةِ الْوَضْعِ، وَفِي سَلَامَةِ الطِّفْلِ عِنْدَ الْوَضْعِ وَعَقِبِهِ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ التَّشْوِيهِ أَوِ الْأَمْرَاضِ، كَقَوْلِهِمْ: لَوْلَا أَنْ فَعَلْنَا كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ مِنْ طَبِيبٍ أَوْ مُرْشِدٍ أَوْ قَابِلَةٍ لَهَلَكَ الْوَلَدُ أَوْ لَأُجْهِضَتْ أُمُّهُ إِجْهَاضًا أَوْ جَاءَتْ بِسَقْطٍ لَمْ يَسْتَهِلَّ، أَوْ لَمَاتَ عَقِبَ إِسْقَاطِهِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحَيَاةِ، وَيَنْسَوْنَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَضْلَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا مَنَّ بِهِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَذْكُرُونَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا - ذَلِكَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَمَسُّهُمْ، أَوْ نِقْمَةٍ يَدْفَعُهَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَهَذَا الشِّرْكُ لَيْسَ خُرُوجًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ نَقْصٌ فِي شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشِّرْكِ هُنَا تَرْجِيحَ حُبِّ الْأَوْلَادِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى، وَشُغْلِهِمْ لِلْوَالِدَيْنِ عَنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَإِيثَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى

طَاعَتِهِ وَالْتِزَامِ مَا شَرَعَهُ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>