فِيهِ إِنَّمَا هِيَ لِلنُّجَاةِ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ مَا مِنْ قَوِيٍّ إِلَّا وَيُوشِكُ أَنْ يُضْطَرَّ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِلَى مَفْزَعٍ يَلْجَأُ إِلَيْهِ لِدَفْعِ عَدُوٍّ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ لِهُدْنَةٍ يَصْطَلِحُ فِي غُضُونِهَا مَعَ خَصْمٍ يَرَى سِلْمَهُ خَيْرًا مِنْ حَرْبِهِ، وَوَلَاءَهُ أَوْلَى مِنْ عَدَائِهِ، فَبِلَادٌ كُلُّهَا أَخْطَارٌ وَمَخَاوِفُ لَا رَاحَةَ فِيهَا لِأَحَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمِنَّةَ عَلَى الْعَرَبِ إِذْ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا آمِنًا بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: (أَوْلَمَ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٢٩: ٦٧) .
قَالَ - تَعَالَى -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَاتَّخَذُوا) بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى (جَعَلْنَا) وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ، أَيْ وَقُلْنَا اتَّخِذُوا أَوْ قَائِلِينَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَحُذِفَ الْقَوْلُ لِلْإِيجَازِ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ ذِهْنُ التَّالِي أَوِ السَّامِعِ الْمَأْمُورِينَ حَاضِرِينَ وَالْأَمْرُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِلْمَاضِي بِصُورَةِ الْحَاضِرِ لِيَقَعَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُهُمْ، وَأَنَّهُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ كَمَا وُجِّهَ إِلَى سَلَفِهِمْ فِي عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ وَآلُ بَيْتِهِ وَمَنْ أَجَابَ دَعَوْتَهُمَا إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ، لَا أَنَّهُ حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ سِيقَتْ لِلْفُكَاهَةِ وَالتَّسْلِيَةِ بَلْ شَرِيعَةٌ وَدِينٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ (اتَّخِذُوا) أَمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَعْنَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَمَا قُلْنَا يَتَضَمَّنُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ قَدِ اتَّخَذُوا مَقَامَهُ مُصَلًّى؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ شُعُورِ الْخَلَفِ بِشَرَفِ عَمَلِ السَّلَفِ وَبَعْثِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.
وَ (مَقَامِ) اسْمُ مَكَانٍ مِنَ الْقِيَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُ مَوَاقِفُ الْحَجِّ كُلُّهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةٌ وَالْجِمَارُ. اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْمُصَلَّى، فَقَالَ مَنْ فَسَّرَ الْمَقَامَ بِالْحَجَرِ: إِنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَيْ صَلَاتُنَا الْمَخْصُوصَةُ وَعَلَيْهِ (الْجَلَالُ) وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ وَقَرَأَ الْآيَةَ)) وَذَهَبَ الْآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُصَلَّى مَوْضِعُ الصَّلَاةِ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ، وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَعِبَادَتُهُ مُطْلَقَةً، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يُرَجِّحُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ مِنْ دَلِيلِهِ أَنَّ الْحِجْرَ لَا يَسَعُ لِلصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ: ((إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى خَلْفَهُ)) فَكَيْفَ يُتَّخَذُ مِنْهُ مَحَلٌّ لِلصَّلَاةِ؟ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا ((هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ))
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ هُوَ الْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute