للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْخَيْرَاتِ فَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ، وَأَنَّ مَا يَنَالُهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ بِشُؤْمِ مُوسَى وَقَوْمِهِ وَتَطَيُّرِهِمْ بِهِمْ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ الْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَالْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ فِي الْعَالَمِ - وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ تَوْبِيخِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ إِيَّاهُ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا كَآلِهَةِ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ مِنْ آخِرِ الْآيَةِ ١٣٨ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، فَهَذِهِ جَامِعَةٌ لِبَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ، وَذَمِّ الْجَهْلِ بِهِمَا مَعًا، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّلَ تَجْهِيلَهُمْ أَوَّلًا بِعِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، وَثَانِيًا بِعِلَّةٍ دِينِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي (ص٩١ - ١٠١ ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ ١٦٩: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَهُوَ مِنَ الْعِلْمِ النَّقْلِيِّ، وَلَكِنَّهُ أُيِّدَ بِالْعَقْلِيِّ فِي خَتْمِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.

فَهَذِهِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَمَا قَبْلَهُ الْمُؤَيَّدَةُ بِأَضْعَافِهَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، تُثْبِتُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ لِشَأْنِ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ; لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِاللهِ وَشَرَائِعِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَتَعْظِيمَ شَأْنِ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مِنْ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى نَقْصِ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهَا.

(الْأَصْلَانِ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ) أَمْرُ النَّاسِ بِأَخْذِ زِينَتِهِمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَبِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الرِّزْقِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ بِقَيْدِ عَدَمِ الِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِعُمُومِ فَضْلِ اللهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَأَنَّهَا تَكُونُ خَالِصَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ الْآيَتَيْنِ ٣١ و٣٢ وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا الرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَقُومُ عَلَيْهِمَا بِنَاءُ الْحَضَارَةِ بِعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا وَصِنَاعَاتِهَا، وَإِظْهَارِهَا لِمَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ، وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى عِبَادِهِ - وَهُمَا الْمُبْطِلَانِ لِأَسَاسِ الدِّيَانَةِ الْبِرَهْمِيَّةِ مِنْ جَعْلِ مَقْصِدِ الدِّينِ تَعْذِيبَ النَّفْسِ، وَحِرْمَانَهَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّةِ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ النَّصَارَى، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ تَقْلِيدِهِمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى

زَعَمُوا أَنَّ دَارَ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ خَالِيَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ تَصْرِيحَاتِ الْإِنْجِيلِ مَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْمَلَكُوتِ، وَكَوْنِ الصَّائِمِينَ وَالْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ يَشْبَعُونَ هُنَالِكَ.

وَلَمَّا كَانَ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الْبَشَرِ يَقْوَى الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مَنْ كُلِّ أُمَّةٍ، بَدَأَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْمُبَالِغِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِتَرْكِ أَكَلِ اللُّحُومِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِالِاخْتِصَاءِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَنَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (٥: ٨٧) الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ بِمَعْنَى مَا هُنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>