للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْبَابُ السَّادِسُ

فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ

(وَفِيهِ ٧ أُصُولٍ)

(١) إِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِظُلْمِهَا لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا، كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ ٤ و٥ وَمِصْدَاقُهُ فِي خَلْقِ آدَمَ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ فِي الْآيَةِ ١٩ وَاعْتِرَافُ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي دُعَاءِ تَوْبَتِهِمَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا (٢٣) وَبِأَنَّ شَأْنَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ تُغْفَرَ بِالتَّوْبَةِ فَيُعْفَى عَنْ عِقَابِهَا، وَهُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِمَا: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَأَمَّا خَسَارَةُ الْأُمَمِ فَهِيَ إِضَاعَةُ اسْتِقْلَالِهَا، وَسُلْطَانُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ، وَأَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا ظُلْمُ الْأَفْرَادِ وَعِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُرَاجَعُ فِي الْأَصْلِ ٤ مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ.

(٢) بَيَانُ أَنَّ لِلْأُمَمِ آجَالًا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي اقْتَضَتْهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ ٣٤، وَكَوْنُهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهَذِهِ السُّنَنِ تُؤْخَذُ بَغْتَةً، وَعَلَى غَفْلَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَاتِ ٩٤ - ١٠٠ وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ، وَكَانَ عِقَابُهَا وَضْعِيًّا لَا اجْتِمَاعِيًّا - وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) الْعِقَابُ بِمَا تَوَعَّدَ تَعَالَى بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَمُعَانَدَتِهِمْ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عِقَابِ الْحُكَّامِ لِرَعَايَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرَائِعِ أُمَّتِهِمْ وَقَوَانِينِهَا وَنُظُمِهَا. (وَثَانِيهِمَا) الْعِقَابُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْجَرَائِمِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرِيضُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ طَبِيبِهِ فِي مُعَالَجَتِهِ لَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى كَذَا مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْتِزَامِ كَذَا مِنَ الدَّوَاءِ. (رَاجِعْ ص٢٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) .

(٣) ابْتِلَاءُ اللهِ الْأُمَمَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ تَارَةً، وَبِضِدِّهَا مِنَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ تَارَةً أُخْرَى. فَإِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ فَيَكُونَ تَرْبِيَةً لَهَا، وَإِمَّا أَنْ تَغْبَى وَتَغْفُلَ فَيَكُونَ مَهْلَكَةً لَهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ ٩٤ وَمَا بَعْدَهَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

(٤) بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا دَعَا اللهُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى فِي الْعَمَلِ بِشَرْعِهِ فِعْلًا وَتَرَكًا، سَبَبٌ اجْتِمَاعِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِسَعَةِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَيْرَاتِهَا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (٩٦) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى (مِنْهَا) الْآيَةُ ٥٢ مِنْ سُورَةِ هُودٍ (١١) ، وَالْآيَاتُ ١٢٣ - ١٢٧ مِنْ سِيَاقِ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ سُورَةِ طه، وَمِثْلُهُ فِي الْآيَاتِ ١٠ - ١٢ مِنْ سُورَةِ نُوحٍ، وَالْآيَتَيْنِ ١٦ و١٧ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ بَعْدَهَا وَغَيْرِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>