للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَيْنَ رَمْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَيْسَ بِسَبَبٍ لِشِكَايَةِ أَعْيُنِهِمْ وَشَوْهَةِ وُجُوهِهِمْ لِقَتْلِهِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ رَامِيهِ، وَكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِينَ كُلِّهِمْ لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْقَتْلِ مُثْبَتًا وَمَنْفِيًّا - وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ - فَنَفَى الْقَتْلَ الْمَحْسُوسَ مُطْلَقًا، وَأَثْبَتَ الْمَعْقُولَ مُطْلَقًا; لِعَدَمِ تَعَارُضِهِمَا، فَالْمُرَادُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهَرٌ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَلَوْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْقَتْلَ مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذْ قَتَلْتُمُوهُمْ - لَكَانَ تَنَاقُضًا ظَاهِرًا يَخْفَى وَجْهُهُ جَعَلَ الْمُثْبَتَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَنْفِيِّ. وَقَتْلُهُمْ لَهُمْ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ مِنْ حَيْثُ كَانَ سَبَبًا نَاقِصًا، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ نَقْصِهِ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِالسَّبَبِيَّةِ، ثُمَّ بَيَانِ مَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ إِعَانَةُ اللهِ وَنَصْرُهُ.

وَأَمَّا رَمْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا عَادِيًّا لِإِصَابَتِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ، لَا مُشَاهَدًا كَضَرْبِ أَصْحَابِهِ لِأَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ لَا يُوهِمُ التَّنَاقُضَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّبَبِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ الرَّمْيِ بِأَنْ يُقَالَ: " وَمَا رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ " إِذْ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا اسْتِقْلَالًا بِكَسْبِهِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ كَسْبِهِمُ الِاسْتِقْلَالِيِّ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ لَوْلَا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ لَمَا وَصَلَ كَسْبُهُمُ الْمَحْضُ إِلَى

هَذَا الْقَتْلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَانَ مِنْ خَوْفِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ وَمُجَادَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٨: ٦) فَلَوْ ظَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ لَكَانَ مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ أَنْ يَمْحَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَحْقًا.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ وَفِعْلِهِ فِي الرَّمْيِ. فَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى لَهُمْ أَسْبَابَ الْقَتْلِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جَمِيعِ كَسْبِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَسْتَقِلُّ فِي حُصُولِ غَايَاتِهَا إِلَّا بِفِعْلِ اللهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ وَلِلْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا كَسْبُهُمْ عَادَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا (٥٦: ٦٣ - ٦٥) إِلَخْ. فَالْإِنْسَانُ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيُلْقِي فِيهَا الْبَذْرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِنْزَالَ الْمَطَرِ، وَلَا إِنْبَاتَ الْحَبِّ وَتَغْذِيَتَهُ بِالتُّرَابِ الْمُخْتَلِفِ الْعَنَاصِرِ، وَلَا دَفْعَ الْجَوَائِحِ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَقِلُّ إِيجَادُ الزَّرْعِ وَبُلُوغُ ثَمَرَتِهِ وَصَلَاحِهَا بِكَسْبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِدُونِ كَسْبٍ عَادِيٍّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْثِيرِهِ، فَالرَّمْيُ مِنْهُ كَانَ صُورِيًّا لِتَظْهَرَ الْآيَةُ عَلَى يَدِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ أَخِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِلْقَائِهِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠: ٢٠) فَخَافَ مِنْهَا أَوَّلًا كَمَا وَرَدَ فِي سُورَتَيْ طه وَالنَّمْلِ.

هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ الْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ الْحَادِثَةِ مِنْ كَلَامِيَّةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>