للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارَ لَيْلَى أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا

وَمَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي

وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا

وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْظِيمُ وَالتَّكْرِيمُ لِلدِّيَارِ، فِي حَالِ غَيْبَةِ السَّاكِنِ وَالدِّيَارِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا حُرِمَتْ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُذْكِي نَارَ الْحُبِّ، وَتُهَيِّجُ الْإِحْسَاسَ وَالشُّعُورَ بِلَذَّةِ الْقُرْبِ، تُحَاوِلُ أَنْ تُذْكِيَ تِلْكَ النَّارَ، بِالتَّعَلُّلِ بِالْأَطْلَالِ وَالْآثَارِ، وَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا خَصَّصَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالتَّقْبِيلِ؟ فَإِنَّ كُلَّ مَشْعَرٍ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاعِرِ قَدْ خُصَّ بِمَزِيَّةٍ تُثِيرُ شُعُورًا دِينِيًّا خَاصًّا يَلِيقُ بِهِ، فَلَا يُقَالُ: لِمَاذَا كَانَ الْوُقُوفُ وَالِاجْتِمَاعُ، وَتَعَارُفُ أَهْلِ الْآفَاقِ وَالْأَصْقَاعِ، مَخْصُوصًا بِعَرَفَةَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِقَاعِ؟ وَلِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالشَّعَائِرِ مَعَانٍ وَأَسْرَارٌ أُخْرَى عِنْدَ بَعْضِ الْخَوَاصِّ، لَا يَنْبَغِي شَرْحُهَا لِعَامَّةِ النَّاسِ.

وَقَدْ جَعَلَ الْقُصَّاصُ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَسْرَارَ، وَجَعَلُوا مَزِيَّةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَمَشَاعِرَهُ وَحَجَرَهُ الْمُكَرَّمَ مَحْصُورَةً فِي مُخَالَفَتِهَا لِسَائِرِ الْحِجَارَةِ، وَكَوْنِ أَصْلِهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَبَقِيَتْ حِجَارَتُهَا كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ رَاجَتْ بِضَاعَتُهُمُ الْمُزْجَاةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الدِّينِ إِلَّا هَذِهِ الرُّسُومَ الظَّاهِرَةَ، وَمِنْهَا كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ الْحَرِيرِيَّةُ الْمُزَرْكَشَةُ فَإِنَّهَا عِنْدَ عَامَّتِنَا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَإِنْ حَرَّمَ حُضُورَ احْتِفَالِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ (كَالْبَاجُورِيِّ) وَلَيْسَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِذَاتِهَا فَإِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بَلْ لِمَا فِي الِاحْتِفَالِ بِهَا مِنَ الْبِدَعِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَفِي جَمَلِهَا الَّذِي يُقَبِّلُ مِقْوَدَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَرُؤَسَاءُ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيِّينَ الْمُدْهِنِينَ لَهُمْ، وَهَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ يَفْهَمُ الدِّينَ، وَيَأْخُذُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، مَا يُنَاسِبُ اسْتِعْدَادَ عَقْلِهِ، وَيَحْسُنُ فِي نَظَرِ جِيرَانِهِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْفَوْضَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَيُدِيرَ شُئُونَهُمُ الِاجْتِمَاعِيَّةَ أَهْلُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، فَيَضَعُونَ لَهُمْ نِظَامًا يُتَّبَعُ فِي تَعْمِيمِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدَ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣: ١٠١) .

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْقَوَاعِدَ جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ مَا يَقْعُدُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ مِنَ الْأَسَاسِ أَوْ مِنَ السَّاقَاتِ، وَرَفْعُهَا: إِعْلَاءُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا أَوْ إِعْلَاؤُهَا نَفْسِهَا عَلَى الْخِلَافِ، وَ (مِنَ الْبَيْتِ) قَالَ (الْجَلَالُ) : إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِيَرْفَعُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أُرِيدَ بِ (الْبَيْتِ) الْعَرْصَةُ أَوِ الْبُقْعَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْبِنَاءُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ (مِنْ) لِلْبَيَانِ: وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْبَيْتُ بِمَعْنَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَالْجُدْرَانِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (الْبَيْتِ) مَجْمُوعُ الْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>