للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَخُو عَدِيٍّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَجَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالتَّخْصِيصِ، فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا فِتْنَةُ عُثْمَانَ فَكَانَتْ أَوَّلَ هَذِهِ الْفِتَنِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْآرَاءُ فَاخْتَلَفَتِ الْأَعْمَالُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَخَلَا الْجَوُّ لِلْمُفْسِدِينَ مِنَ السَّبَئِيِّينَ وَأَعْوَانِهِمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ

وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَعْقَبَ فِتْنَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، ثُمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ قَتْلُهُمُ الْحُسَيْنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَخْ. وَلَوْ تَدَارَكُوهَا كَمَا تَدَارَكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِتْنَةَ الرِّدَّةِ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةٌ تَبِعَتْهَا فِتَنٌ كَثِيرَةٌ لَا يَزَالُ الْمُسْلِمُونَ مُصَابِينَ بِهَا وَمُعَذَّبِينَ بِعَذَابِهَا، وَأَكْبَرُهَا فِتَنُ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ وَفِتَنُ افْتِرَاقِ الْمَذَاهِبِ.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ خَالَفَ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلِمَنْ خَالَفَ هِدَايَةَ دِينِهِ الْمُزَكِّيَةَ لِلْأَنْفُسِ، وَقَطْعِيَّاتِ شَرْعِهِ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأَفْرَادِ أَوْ لِلْأُمَمِ، وَعِقَابُ الْأُمَمِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ أَهْلُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانُوا خَيْرَهَا بَلْ خَيْرَ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي دَرْءِ الْفِتْنَةِ الْأُولَى عَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَيْهَا عِقَابًا شَدِيدًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ الْعِقَابُ فِي كُلِّ جِيلٍ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ امْتَزَجَتِ الْفِتَنُ الْمَذْهَبِيَّةُ بِالْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلِهَذَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَشَدَّ مَصَائِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَدْوَمَهَا، فَزَالَتِ الْخِلَافَةُ الَّتِي تَنَازَعُوا عَلَيْهَا، وَتَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقَاتَلُوا لِأَجْلِهَا، وَلَمْ تَزَلْ هِيَ، بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً وَشَبَابًا، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مَجَلَّةِ الْمَنَارِ.

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُهَاجِرِينَ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ بِمَكَّةَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً فِي عَهْدِ نُزُولِ السُّورَةِ، يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَزِيرَتِهِمْ بَيْنَ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ مِنْ إِرَادَةِ هَذَا وَذَاكَ مَعًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أَيْ: تَخَافُونَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى وَقْتِ الْهِجْرَةِ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ مُشْرِكُو قَوْمِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَرَبِ، أَيْ أَنْ يَنْتَزِعُوكُمْ بِسُرْعَةٍ فَيَفْتِكُوا بِكُمْ - كَمَا كَانَ يَتَخَطَّفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خَارِجَ الْحَرَمِ، وَتَتَخَطَّفُهُمُ الْأُمَمُ مِنْ أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْحَرَمِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ

مِنْ حَوْلِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>