للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَافَ الذَّنْبِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللهِ أَيْ عَنْ طَرِيقِ دِينِهِ وَمُوجِبَاتِ رِضْوَانِهِ، وَيُقَالُ: تَابَ اللهُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ اللهِ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ كَأَنَّ الرَّحْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَنْحَرِفُ عَنِ الْمُذْنِبِ بِاقْتِرَافِهِ أَسْبَابَ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا تَابَ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَعَطَفَ رَبُّهُ عَلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ النَّاسِ، فَعَبْدُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرْتَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ مَا أَمَرْتَهُ بِتَرْكِهِ، وَصَدِيقُكَ يَتُوبُ إِلَيْكَ وَيَعْتَذِرُ إِذَا هُوَ قَصَّرَ فِي عَمَلٍ لَكَ فِيهِ فَائِدَةٌ عَمَّا فِي إِمْكَانِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ، وَوَلَدُكَ يَتُوبُ إِذَا قَصَّرَ فِي أَدَبٍ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؛ لِيَكُونَ فِي نَفْسِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا، وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ تَوْبَاتُ التَّائِبِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَفَهْمِ أَسْرَارِ شَرِيعَتِهِ، فَعَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ مُوجِبَاتِ سُخْطِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَسْبَابِ عُقُوبَتِهِ إِلَّا الْمَعَاصِيَ الَّتِي شَدَّدَتِ الشَّرِيعَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهَا، وَإِذَا تَابُوا مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ فَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْهَا، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ سَيِّئٍ لَوَثَةً فِي النَّفْسِ تَبْعُدُ بِهَا عَنِ الْكَمَالِ، وَلِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ أَثَرًا فِيهَا يُقَرِّبُهَا مِنَ اللهِ وَصِفَاتِهِ، فَالتَّقْصِيرُ فِي الصَّالِحَاتِ يُعَدُّ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي تَهْبِطُ بِالنَّفْسِ وَتُبْعِدُهَا عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، فَهِيَ إِذَا

قَصَّرَتْ فِيهَا تَتُوبُ، وَإِذَا شَمَّرَتْ لَا تَأْمَنُ النَّقَائِصَ وَالْعُيُوبَ، وَيَخْتَلِفُ اتِّهَامُ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ لِأَنْفُسِهِمْ بِاخْتِلَافِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصِفَاتِ النَّفْسِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنَ الْآفَاتِ فِي سَيْرِهَا، وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكَمَالِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَمَعْنَى الْقُرْبِ مِنْهُ وَاسْتِحْقَاقِ رِضْوَانِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ((حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ)) وَمِنْ هُنَا نَفْهَمُ مَعْنَى التَّوْبَةِ الَّتِي طَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ - (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أَيْ إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ الْكَثِيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِكَ - وَإِنْ كَثُرَ تَحَوُّلُهُمْ عَنْ سَبِيلِكَ - بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ إِلَيْكَ وَقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهُمْ، الرَّحِيمُ بِالتَّائِبِينَ.

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالِارْتِقَاءِ الَّذِي يُؤَهِّلُهُمْ وَيُعِدُّهُمْ لِظُهُورِ النَّبِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَجَابَ اللهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الدَّعْوَةَ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ ((أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى)) . . . إِلَخْ، ثُمَّ وُصِفَ هَذَا الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَعَظَمَةِ شَأْنِكَ، وَالدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ رُسُلِكَ إِلَى خَلْقِكَ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْآيَاتُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، أَوِ الْمُرَادُ آيَاتُ الْوَحْيِ الَّتِي تُنْزِلُهَا عَلَيْهِ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى تَفْصِيلِ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَبَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ. وَتِلَاوَتُهَا: ذِكْرُهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِتَرْسَخَ فِي النَّفْسِ وَتُؤَثِّرَ فِي الْقَلْبِ.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْكِتَابَ بِالْقُرْآنِ، وَالْحِكْمَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>