للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَرَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مَا نَالُوا مِنْهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمُ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ.

وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي اسْتِغْرَابِهِمْ لِذَلِكَ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (٣: ١٦٥) .

وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ هَذَا النَّهْيُ مُسَاقٌ لِلْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَبِطَاعَةِ اللهِ وَالرَّسُولِ، وَمُتِمٌّ لِلْغَرَضِ مِنْهُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ مَدْعَاةُ الْفَشَلِ، وَهُوَ الْخَيْبَةُ وَالنُّكُولُ عَنْ إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الضَّعْفُ وَالْجُبْنُ، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ هُنَا بِهِمَا، وَأَصْلُ التَّنَازُعِ كَالْمُنَازَعَةِ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّزْعِ، وَهُوَ الْجَذْبُ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِشِدَّةٍ أَوْ لُطْفٍ كَنَزْعِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَنَزْعِ السُّلْطَانِ الْعَامِلَ مِنْ عَمَلِهِ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَنْزِعَ مَا عِنْدَ الْآخَرِ مِنْ رَأْيٍ وَيُلْقِي بِهِ - أَوْ مِنْ نَزَعَ إِلَى الشَّيْءِ نُزُوعًا إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْأَمْرِ يَمِيلُ إِلَى غَيْرِ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَهَذَا أَظْهَرُ هُنَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فَمَعْنَاهُ تَذْهَبُ قُوَّتُكُمْ، وَتَرْتَخِي أَعْصَابُ شِدَّتِكُمْ فَيَظْهَرُ عَدُوُّكُمْ عَلَيْكُمْ. وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ الْهَوَاءُ الْمُتَحَرِّكُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَقَدْ تُذَكَّرُ بِمَعْنَى الْهَوَاءِ، وَتُسْتَعَارُ لِلْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهَا تُهَيِّجُ الْبِحَارَ، وَتَقْتَلِعُ أَكْبَرَ الْأَشْجَارِ، وَتَهْدِمُ الدُّورَ وَالْقِلَاعَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: تُسْتَعَارُ لِلدَّوْلَةِ، لِشَبَهِهَا بِهَا فِي نُفُوذِ أَمْرِهَا. وَيَقُولُونَ: هَبَّتْ " رِيَاحُ فُلَانٍ " إِذَا دَالَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ، وَجَرَى أَمْرُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ. كَمَا يَقُولُونَ رَكَدَتْ رِيحُهُ أَوْ رِيَاحُهُ إِذَا ضَعُفَ أَمْرُهُ وَوَلَّتْ دَوْلَتُهُ.

وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أَيْ: وَاصْبِرُوا عَلَى مَا تَكْرَهُونَ مِنْ شِدَّةٍ، وَمَا تُلَاقُونَ مِنْ بَأْسِ الْعَدُوِّ وَاسْتِعْدَادِهِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، وَرَبْطِ الْجَأْشِ وَالتَّثْبِيتِ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، فَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢: ١٥٣) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا هُنَالِكَ (ص ٣٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ) بَلْ يُرَاجَعُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ

مِنْ أَوَّلِهَا (ص٢٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ) وَكَذَا تَفْسِيرُ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (٢: ٤٥) قَبْلَهَا (ص ٢٤٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ ط الْهَيْئَةِ) وَهُنَالِكَ تَفْسِيرُ كَلِمَةِ الصَّبْرِ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَلَا سِيَّمَا الْقِتَالِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>