للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيِّ ... يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي عِبَادِ الْمِلَّةِ أَفْرَادٌ فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَاشْتُهِرَ مِنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَالْعِنَايَةَ بِهِمْ، مَا يَعْسُرُ عَلَى الذَّكِيِّ تَأْوِيلُهُ كُلُّهُ بِالتَّخْرِيجِ عَلَى الْمُصَادَفَاتِ الْمُعْتَادَةِ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الَّذِي كَانَ مَلِكًا فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ، وَانْقَطَعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَفِي كُلِّ أُمُورِهِ. وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي عَصْرِنَا عَالِمًا أَفْغَانِيًّا مِنْهُمُ اسْمَهُ عَبْدُ الْبَاقِي خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى الْهِنْدِ لِلتَّوَسُّعِ فِي الْفَلْسَفَةِ وَسَائِرِ الْمَعْقُولَاتِ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِيهَا حَتَّى رَأَى فِي مَنَامِهِ مَرَّةً رَجُلَا ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مُؤْثِرَةٍ سَأَلَهُ: أَتَدْرِي مَاذَا تَعْمَلُ يَا عَبْدَ الْبَاقِي؟ إِنَّكَ كَمَنْ يَأْخُذُ خَشَبَةً يُحَرِّكُ بِهَا الْكَنِيفَ عَامَّةَ نَهَارِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَمَلَتْهُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْفَائِدَةِ مِنْهَا. وَمَا لَبِثَ أَنْ تَرَكَهَا، وَعَزَمَ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَتَرَكَ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَكَانَ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَاشِيًا، وَيَعُودُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فِي الْغَالِبِ فَيُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْقَلَمُونِ أَيَّامًا، وَفِي طَرَابُلُسَ وَحِمْصَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحِجَازِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ دَرَاهِمَ، وَلَا زَادًا، وَقَدْ يَحْمِلُ كِتَابًا بِيَدِهِ يَقْرَأُهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهَبَهُ، وَتَلَقَّى عَنْهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ دُرُوسًا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الدَّرَاوِيشِ الْكُسَالَى وَالسَّيَّاحِينَ الدَّجَّالِينَ.

قَالَ صَدِيقُنَا الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّقَّادَةُ السَّيِّدُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الزَّهْرَاوِيُّ: لَوْلَا أَنَّنَا رَأَيْنَا هَذَا الرَّجُلَ بِأَعْيُنِنَا وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الطِّوَالِ بِأَنْفُسِنَا، لَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارِ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْخَوَاصِّ وَالْبَلْخِيِّ

مُبَالَغَاتٌ وَإِغْرَاقَاتٌ مِنْ مُتَرْجِمِيهِمْ.

وَقَدْ حَدَّثَنَا الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ الْأَدِيبُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ التَّوَكُّلِ، وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ صَارَ مُقَدَّمًا لَهُ، فَامْتَحَنَّاهُ بِسَفَرٍ خَرَجَ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَسَخَّرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ مَا كَانَ بِهِ سَفَرُهُ لَائِقًا بِكَرَامَتِهِ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسَافِرِينَ بِالْبَاخِرَةِ فَتَبَرَّعَ لَهُ بِأُجْرَةِ السَّفَرِ فِيهَا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّسْخِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا لِرِجَالِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِي أَقْوَامِهِمْ وَأَقْطَارِهِمْ، وَنَاهِيكَ مَا كَانَ يَمْتَازُ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ جَمَالِ الصُّورَةِ، وَمَهَابَةِ الطَّلْعَةِ، وَحُسْنِ الزِّيِّ وَالْوَقَارِ يُزَيِّنُهُ اللُّطْفُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلَكِنْ هَلْ يَقْدَمُ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي كَرَامَتِهِ وَإِبَائِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ وَهُوَ لَا يَحْمِلُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا لَوْلَا شِدَّةُ الثِّقَةِ بِاللهِ، وَاطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَقْدَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ أُنَاسٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>