للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا التَّعْبِيرُ بِعَيْنِهِ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِلَى لِلْعَبِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ١٨١ و١٨٢) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُ فِي (ص ٢١٧ و٢١٨ ج ٤ طَ الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ بَيَانُ نُكْتَةِ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُرَاجَعُ فِي بَيَانِ هَذَا أَيْضًا تَفْسِيرُ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (٤: ٤٠) فِي (ص٨٥ - ٩١ ج ٥ طَ الْهَيْئَةِ) .

وَنُكْتَةُ هَذَا التَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الْإِلَهِيَّةَ تُقَامُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ الْمُجْرِمِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِحَالِ أُنَاسٍ أَوْ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، وَمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَرَدَ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، كَمَا آذَوُا النَّبِيِّينَ قَبْلَهُ، وَكَانُوا يَقْتُلُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ بُخْلِهِمْ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (٣: ١٨١) وَيَتَّضِحُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: دَأْبِ هَؤُلَاءِ وَشَأْنِهِمِ الثَّابِتِ لَهُمْ - وَالدَّأْبُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ - كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ، وَسَائِرِ الْمُلُوكِ الْعُتَاةِ، وَأَقْوَامِ الرُّسُلِ فِي التَّارِيخِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَظْلِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي الْعُدَدِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، فَكَمَا كَانَ دَأْبُهُمْ وَاحِدًا كَانَتْ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمْ وَاحِدَةً، فَنَصْرُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عِقَابَهُ، وَلَكِنْ لِكُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ أَجَلًا. قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (٣: ١١) وَالنُّكْتَةُ فِي هَذَا التَّكْرَارِ بَيَانُ أَنَّهُ سُنَّةُ اللهِ فَاطَّرَدَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِفَقْرِهِمْ وَضَعْفِ عَصَبِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ فِي الْكُفَّارِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَبَأْسِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَقْدِ ذَلِكَ وَهِيَ سَابِقَةٌ فِي النُّزُولِ.

ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ أَخْذِهِ تَعَالَى لِقُرَيْشٍ بِكُفْرِهَا لِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهَا، الَّتِي أَتَمَّهَا بِبَعْثِهِ خَاتَمَ رُسُلِهِ مِنْهُمْ، كَأَخْذِهِ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، مُؤَيِّدٌ بِأَمْرٍ آخَرَ يَتِمُّ بِهِ عَدْلُهُ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعْمَةً مَا أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا تِلْكَ النِّعْمَةَ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُحِيطٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ كُفْرِهِمْ لِلنِّعْمَةِ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>