وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِعْدَادُ تَهْيِئَةُ الشَّيْءِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَالرِّبَاطُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الدَّابَّةُ كَالْمِرْبَطِ (بِالْكَسْرِ) وَرِبَاطُ الْخَيْلِ حَبْسُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا - وَرَابَطَ الْجَيْشُ: أَقَامَ فِي الثَّغْرِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ، ثُمَّ سَمَّى الْإِقَامَةَ فِي الثَّغْرِ مُرَابَطَةً وَرِبَاطًا اهـ. مِنَ الْأَسَاسِ.
أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَجْعَلُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ (الَّتِي عَلِمُوا أَنْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهَا لِدَفْعِ الْعُدْوَانِ وَالشَّرِّ، وَلِحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَرِعَايَتِهِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْفَضِيلَةَ) بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) إِعْدَادُ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ لَهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ. (وَثَانِيهِمَا) مُرَابَطَةُ فُرْسَانِهِمْ فِي ثُغُورِ بِلَادِهِمْ وَحُدُودِهَا، وَهِيَ مَدَاخِلُ الْأَعْدَاءِ وَمَوَاضِعُ مُهَاجَمَتِهِمْ لِلْبِلَادِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمَّةِ جُنْدٌ دَائِمٌ مُسْتَعِدٌّ لِلدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا فَاجَأَهَا الْعَدُوُّ عَلَى غِرَّةٍ، قَاوَمَهُ الْفُرْسَانُ، لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْقِتَالِ، وَإِيصَالِ أَخْبَارِهِ مِنْ ثُغُورِ الْبِلَادِ إِلَى عَاصِمَتِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَلِذَلِكَ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَمْرَ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهَا. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ تُعَوِّلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ الدُّوَلِ الْحَرْبِيَّةِ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهِ الْفُنُونُ الْعَسْكَرِيَّةُ وَعَتَادُ الْحَرْبِ إِلَى دَرَجَةٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ، بَلْ لَمْ تَكُنْ تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَتَخَيَّلُهَا الْأَفْكَارُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ إِعْدَادَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ يَخْتَلِفُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ بِهِ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِحَسْبِهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَدْ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ " قَالَهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ الْحَجُّ عَرَفَةُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ فِي بَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَمْيَ الْعَدُوِّ عَنْ بُعْدٍ بِمَا يَقْتُلُهُ أَسْلَمُ مِنْ مُصَاوَلَتِهِ عَلَى الْقُرْبِ بِسَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ أَوْ حَرْبَةٍ، وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ فِي الْحَدِيثِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُرْمَى بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ سَهْمٍ أَوْ
قَذِيفَةِ مَنْجَنِيقٍ أَوْ طَيَّارَةٍ أَوْ بُنْدُقِيَّةٍ أَوْ مِدْفَعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ هَذَا مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ يَقْتَضِيهِ، وَلَوْ كَانَ قَيَّدَهُ بِالسِّهَامِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُقَيِّدْهُ، وَمَا يُدْرِينَا لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُطْلَقًا، لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ لِأُمَّتِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِحَسْبِ مَا يُرْمَى بِهِ فِيهِ - وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى فِي الْحَثِّ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ؛ لِأَنَّهُ كَرَمْيِ الرَّصَاصِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُسْتَطَاعِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ كَسَائِرِ خِطَابَاتٍ التَّشْرِيعِ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا وَارِدًا فِي سَبَبٍ مُعَيَّنٍ. وَمِنْ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ صُنْعُ الْمَدَافِعِ بِأَنْوَاعِهَا وَالْبَنَادِقِ وَالدَّبَّابَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدِ وَإِنْشَاءُ السُّفُنِ الْحَرْبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا الْغَوَّاصَاتُ الَّتِي تَغُوصُ فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute