الْجِهَادِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهِ إِلَّا بِإِنْفَاقِ الْمَالِ الْكَثِيرِ، فَلِهَذَا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُنْفِقُونَهُ فِيهَا يُوَفَّى إِلَيْهِمْ، أَيْ: يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ جَزَاءً وَافِيًا إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلَيْهِمَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، كَمَا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُنَافِقِينَ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (٩: ٥٢) الْآيَةَ. وَسَتَأْتِي قَرِيبًا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَالْحُسْنَيَانِ فِيهَا هُمَا: النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالشَّهَادَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ بَذْلُ مَا يَكْفِي لِلْإِعْدَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبْذُلُوا طَوْعًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ الْعَادِلِ إِلْزَامُ الْأَغْنِيَاءِ ذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ لِوِقَايَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، كَمَا قَالَ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (٢: ١٩٥) فَسَبِيلُ اللهِ هُنَا وَهُنَالِكَ هُوَ الْجِهَادُ الْوَاقِي لِأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ بَغْيِ أَهْلِ الْبَاطِلِ - وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًا يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَمَثُوبَتِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ تَعْلِيلًا لَهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢: ٣٩ - ٤١) .
فَهَذَا هُوَ الْجِهَادُ الْإِسْلَامِيُّ، وَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَأُصُولُهُ وَعِلَلُهَا، وَهِيَ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا تُفَنِّدُ تَقَوُّلَاتِ أَعْدَاءِ الْحَقِّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَامَ بِالسَّيْفِ،
وَغَلَبَ بِالْقَهْرِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ أَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَبِمَا تَوَاتَرَ مِنْ تَارِيخِهِ أَنَّهُ دِينٌ قَامَ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِقْنَاعِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَذَا الدَّاعِيَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَدْنَوْنَ: زَوْجُهُ الَّتِي كَانَتْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَالِهِ، وَرَبِيبُهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى، وَعَتِيقُهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَأَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ خَارِجَ بَيْتِهِ فَعَقِلَهَا وَفَقِهَ سِرَّهَا، وَأَدْرَكَ حَقِّيَّتَهَا وَفَضْلَهَا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَقَبِلَهَا بِلَا تَلَبُّثٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَمَا زَالَ جُمْهُورُ قَوْمِ الدَّاعِي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُؤْذُونَهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ وَيَفْتِنُونَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ بِأَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَتَرْكِ دِيَارِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ بَعْدَ ظُهُورِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ صَارَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَتْبَعُونَهُمْ إِلَى مُهَاجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ.
وَلَمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُمْ بِالدِّفَاعِ بَيَّنَ حِكْمَتَهُ، وَأَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ لَا ظَالِمُونَ، وَأَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الدِّفَاعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute